صفقة ترامب: وقف الحرب في غزة، والتأمين السياسي لنتنياهو

 



محمود عبد العزيز

    مع توقف الحرب بين إسرائيل وإيران، عادت الحرب على غزة إلى واجهة الأخبار، وسط تكهنات بإمكانية الإعلان قريباَ عن وقف إطلاق النار. الرئيس الأمريكي "ترامب" أشار إلى أن الاتفاق قد يكون في ظرف أسبوع. فيما قالت أطراف من حماس أن المفاوضات التي تتم برعاية مصرية قطرية تأخذ طابعآ جدياً، وأن الاتفاق قد يكون في بحر اسبوعين أو ثلاثة، كما أن أصواتاً من داخل الحكومة الإسرائيلية، والمعارضة على حد سواء أصبحت تتحدث عن وقف مُرتقب للحرب في غزة.

عشية عملية 7 أكتوبر 2023 كان "نتنياهو" يعيش أجواء أزمة سياسية، مُهدداً بالمحاكمة الجنائية في اتهامات بالفساد، وغداتها، أصبح مُهدداً بالمحاكمة السياسية إزاء الفشل الأمني لحكومته في توقع الحدث أو التعامل الاستباقي معه.

على هذا الأساس، تعامل "نتنياهو" مع استمرار الحرب على غزة باعتبارها قضية حياة أو موت بالنسبة لمستقبله السياسي، ولهذا ماطل إلى أقصي حد، لمنع التوصل إلى اتفاق يُنهي عملية الإبادة التي يقوم بها، مُدركاً أنه في اللحظة التي سيُعلن فيها عن وقف نهائي للحرب، فإنه سيُترك ليواجه مصيراً سياسياً قاتماً. متيقناً أن الحرب لا يجب أن تتوقف إلا عندما يُحقق نجاحاً استراتيجياً إقليمياً يتجاوز حجم الفشل الذي حدث في السابع من أكتوبر.

ولأن نتنياهو أقام الصلة منذ اليوم الأول للعمليات العسكرية بين أحداث السابع من أكتوبر، وبين المحور الإيراني في المنطقة، فإن غزة تحولت إلى ذريعة مستقبلية للتعامل العسكري مع هذا المحور، وصولاً إلى لحظة المواجهة المباشرة مع طهران، وعند ذلك تسقط غزة، والقضية الفلسطينية بصفة عامة من حسابات طهران، وتل أبيب على حد سواء، رغم أن الأخيرة ستظل معنية بالتعامل مع الإرث الذي خلفته آلة الإبادة العسكرية.

اليوم، لا يبدو أن "نتنياهو" يخشى المساءلة السياسية، فقد ارتفعت أسهم شعبيته في الداخل، وتحسن وضعه السياسي، واطمئن إلى نتائج الانتخابات المُقبلة في 2026، وقد منحه ترامب لقب "بطل الحرب" ليتناسب مع الاسم الإعلامي للعملية العسكرية ضد إيران "الأسد الصاعد". لكن ورغم ذلك، ظل شبح المحاكمة الجنائية يُطارده، وهي الورقة الوحيدة التي يمتلكها معارضوه الراغبين في إزاحته من موقعه كرئيس للوزراء.

هنا، ظهر ترامب المُخلص/ ٍSavior، ليمنح نتنياهو صك "تأمين سياسي"، طالباً وربما آمراً الداخل الإسرائيلي بأن يُوقف محاكمة نتنياهو، فـ "بطل الحرب" يجب أن يُكرم لا أن يُحاكم.

هذا التدخل الترامبي في السياسة الإسرائيلية، يثير أمرين مُهمين:

الأول، أن المستقبل السياسي لنتنياهو أصبح رهينة بشكل أو أخر لكلمة من ترامب، رغم كل الحديث في الإعلام الأمريكي "المناوئ لترامب" بأن نتنياهو هو الذي يُحدد خطوط حركة السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، وهذا صحيح إلى حد كبير. إلا أن نتنياهو في الأخير، وبتعبير الرئيس "مبارك"، بني أدم "بِلط" بكسر الياء، أي لن يكون أسيراً لفضل ترامب!

الثاني، في بلد يعتبر نفسه الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط فإن هذا التدخل المُعرقل لإجراءات "سيادة القانون" سُيلقي بظلال إضافية من الشك حول مستقبل الإجراءات الديمقراطية في إسرائيل. وقد كان يُمكن لصفقة من هذا النوع أن تُشكل استثناءً مُنقذاً لها، إذا طُرحت في صورة وثيقة "خروج آمن" لنتنياهو من المشهد، إلا أنها وقد جاءت في هذه الصورة الترامبية، فهي "قُبلة حياة" ينصرف بعدها "نتنياهو"  إلى استكمال مسيرة الأسد الصاعد! وهو بهذا أسعد حظاً من "تشرشل" بطل الحرب العالمية الثانية الذي خسر أول انتخابات برلمانية بعد الحرب!

من جهتها، التقطت المُعارضة الإسرائيلية هذا الخيط، فصرحت في 29 يوليو على لسان زعيمها، رئيس الوزراء السابق "يائير لابيد" بأن (إسرائيل دولة مُستقلة ولا يوجد ما يدعو للتدخل في نظامها القضائي)، لكن من المشكوك فيه أن تتمكن المعارضة من الصمود أمام ضغط الإدارة الأمريكية، خاصة إذا نجح نتنياهو ومعه ترامب في تسويق الصفقة في الداخل الإسرائيلى، على أنها تتضمن بالضرورة التوصل لاتفاق "ما"  يُنهي الحرب في غزة، ومن ثم يُعيد ما تبقى من رهائن وُمحتجزين، وهي قضية الرأي العام الإسرائيلي الأولى.

يظل الهاجس الأساسي هو شكل الاتفاق المُنتظر الإعلان عنه لوقف الحرب في غزة، هل يكون على طريقة ترامب، أي إعلان لا يستند إلى وثيقة مكتوبة، أم اتفاق يُفضي إلى إطلاق عملية سلام شامل، وهو المُستبعد للأسف.

على أية حال، فإن الشواهد التي لدينا في الإقليم، تقول أن إسرائيل احتفظت بحرية العمل العسكري كما في لبنان وسوريا واليمن، ولاحقاً إيران، ولذلك ألمح وزير الخارجية الإيراني "عباس عراقجي" بعد وقف إطلاق النار، أن إيران ليست لبنان! وبالتالي ليس متوقعاً أن تكون غزة استثناءً لما يبدو أنه بات القاعدة.

ليس متوقعاً كذلك أن يتم الإعلان عن أي شئ قبل السابع من يوليو الجاري، حيث يطير "نتنياهو" إلى واشنطن للقاء ترامب، الذي قد يقوم من جهته - أثناء الزيارة أو بعدها- بالإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة من جهة واحدة ودون اتفاق مكتوب مع حماس أو غيرها من الفصائل الفلسطينية.

على هذا، فإن الأوقع هو الإعلان عن هدنة مؤقتة مهما طالت مدتها، وسيكون هدفها الأساسي هو إستعادة الرهائن والمحتجزين، في مقابل إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وستظل الإجابة عن ملامح اليوم التالي للحرب غائبة، بما تتضمنه من مسائل أساسية تتعلق بإدارة القطاع في المستقبل، وحسم الموقف من حماس والفصائل، مع استمرار العمل على فتح ممرات للتهجير الطوعي، بعد أن استعصت خطة التهجير القسري.

إن متابعة مجريات السياسة الإسرائيلية تشير إلى غياب أي تصور جدي بشأن مستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية عموماً، مع غياب الاستعداد لتحمل أي مسؤولية سياسية لاتفاق شامل مع الفلسطينيين، وبالتالي، وللمفارقة فإن خطة التهجير القسري وعلى ما فيها من غطرسة، إلا أنها تعبر بالأساس عن "الاستسهال"  الناتج عن ضعف الخيال السياسي لنخبة الحكم في إسرائيل وفي الإدارة الأمريكية الحالية، حيث قررا معاً اللجوء إلى تفعيل الحل النهائي لقضية لا يُمكن أن تُحل بهذه الصيغة!

تعليقات

المشاركات الشائعة