أساطير وحقائق من وحى الحرب الإسرائيلية على غزة: الأوضاع عشية أكتوبر 2023. (3)

 

محمود عبد العزيز 

    في المقالين السابقين ناقشنا أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، واسرائيل الديمقراطية "الوحيدة" في الشرق الأوسط، واستمراراً لنهج هذه السلسلة، فإن هذا المقال يتعامل مع الوقائع أكثر مما يتعامل مع الأساطير وإن استند أحدهما على الآخر، لنتساءل كيف أعادت إسرائيل ضبط أوضاعها بالمنطقة في ضوء ما حققته سياسياً واقتصادياً وعسكرياً؟ وكيف كان وضعها عشية بدء العمليات العسكرية ؟

حين احتفلت إسرائيل بـالذكري الخامسة والسبعين على تأسيسها أو كما تُسميه بيوم الاستقلال ويُسميه العرب بالنكبة، نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية تقريراً مُفصلاً في أبريل 2023 عن إسرائيل؛ الأمة الناجية/ Survivor Nations، احتفت فيه بما اعتبرته النجاح الإسرائيلي في الصمود على مدار هذه السنوات على الرغم من التحديات والحروب التي شنتها أو شًنت عليها. 

كان مُلحص التقرير أن إسرائيل لم تكن أكثر أمناً وغناً مثلما كانت في عيدها الماسي حيث عاشت سنوات طويلة في ظل نظام ديمقراطي رغم أنها لا تمتلك دستوراً مكتوباً، وتجاوزت حدة الحروب وفقر الموارد لتصبح أحد مراكز توطين التكنولوجيا عالمياً، كما استوعبت أكثر من مليون يهودي من دول الاتحاد السوفييتي السابق بعد تفككه. 

أصبحت إسرائيل أغني 12 مرة من مصر أكبر الدول العربية، وبينما كان متوسط دخل المواطن الإسرائيلي في الثمانينيات يساوي نصف متوسط دخل المواطن الألماني، اًصبح في 2023 أعلى منه بـ 12%، وأصبح لدى إسرائيل عدد شركات تكنولوجية أكثر من كل دول الشرق الأوسط مُجتمعة، وعدد من جوائز نوبل أكثر مما حصلت عليه الصين وهي القوة الثانية عالمياً.

هذه الصورة شديدة التفاؤل ليست هي عنوان المشهد الوحيد، في ظل ثلاثة تحديات أساسية تواجه الدولة والمجتمع الإسرائيلي، وهذه التحديات هى ملامح المشهد العام قبل أكتوبر 2023: 

1. التحدي السياسي: حيث كانت إسرائيل تعيش على وقع أزمة دستورية على خلفية التعديلات المُقترحة  لتعديل صلاحيات المحكمة العليا، وقد فجرت هذه التعديلات الشارع السياسي، فاندلعت موجة من التظاهرات، وهدد العديد من الشباب الإسرائيلي بالامتناع عن الخدمة في الجيش. وتتصل هذه الأزمة بخطر تمدد اليمين الديني المتطرف الذي تقوده حكومة نتنياهو، صاحب أكبر عدد سنوات في حكم الدولة (خُمس عمر إسرائيل)، ما يعني أن كلاً من الوجه الديمقراطي والعلماني لإسرائيل كان على المحك!

2. التحدي الديمغرافي: فقد بلغ عدد السكان 10 مليون، ويمكن أن يتضاعف إلى 20 مليون بحلول 2065، لكن زيادة عدد السكان قد يعني زيادة حدة الاستقطاب والانقسام في المجتمع الإسرائيلي، حيث سترتفع نسبة السكان المتطرفين دينياً الذين يحجمون عن أداء العمل والخدمة العسكرية أو الدخول في نظام التعليم الحكومي من 13% إلى 32%. وهو ما سيؤثر بالقطع على ما حققته إسرائيل من استقرار سياسي ورخاء اقتصادي، ومن الجدير بالذكر أن طائفة الحريديم المُتشددة دينياًومن الجدير بالذكر أن طائفة الحريديم المُتشددة دينياً يبلغ عددها حوالي 1.28 مليون مواطن، بمعدل نمو سكاني نسبته 4% بينما تبلغ النسبة بين الإسرائيليين عموماً 2.3%، فالمرأة الحريدية لديها في المتوسط سبعة أطفال بينما الإسرائيلية العادية لديها اثنين فقط. ما يعني أن هؤلاء قد يمثلون الأغلبية بحلول عام 2065. كما يبلغ نسبة الذكور الحريديم الذين لا يعملون حوالي 46.5% طبقاً لاحصائيات معهد الديمقراطية الإسرائيلي.

3. تعقُد المسألة الفلسطينية: فالدعم والتعاطف العالمي مع القضية الفلسطينية لم يعد كما كان في السابق. في وقت من الأوقات كانت الولايات المتحدة حريصة على عقد اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين باعتبار أن ذلك هو الحل الأمثل لأمن ورخاء إسرائيل. لكن مع الأيام بات واضحاً أن الاحتمال ضعيف في إمكانية أن تتعرض إسرائيل لأي تهديد أو ضغوط خارجية يدفعها إلى التخلي عن الأراضي أو المستوطنات التي تحتلها وتتوسع فيها يومياً، ويقوم هذا التقدير على مجموعة من الحقائق على النحو التالي:

  • أن إسرائيل رغم اعتمادها على دعم الولايات المتحدة التي توفر 66% من السلاح الإسرائيلي، فإنها تبقى مستفيدة من تحولات القوة في النظام العالمي الذي يتشكل حيث تحتفظ بعلاقات قوية مع كلاً من الهند والصين، وتقيم علاقات علنية مع أغلب البلدان العربية بعد توقيع ما يُعرف باسم "الاتفاقيات الإبراهيمية" في 2020، وتبقي المشكلة الوحيدة لديها في تراجع دعم الرأي العام الأمريكي لها في ظل نهج الحكومات اليمينية، فواحد من بين كل أربعة يهود أمريكيين سنة 2023 كان ينظر لإسرائيل كدولة فصل عنصري/ أبارتهيد.

  • غابت قضية الاحتلال عن اهتمامات المواطن في إسرائيل بسبب استدامة هذا الاحتلال وعدم تعرضه لمشكلات جوهرية، فنحو 11% فقط من الناخبين في إسرائيل كانوا يعتقدون أن المشكلة الأمنية تأتي لديهم كأولوية أولي. ما يعني أن المواطن في إسرائيل لا يشعر أن هناك مشكلة في استمرار الاحتلال وهذا في حد ذاته المشكلة، ويعود هذا التحول في أولويات المواطن الإسرائيلي إلى نجاح حكومة نتنياهو في الجمع بين معادلة الأمن والاقتصاد. فمنذ وصول نتنياهو مُجدداً إلى السلطة في 2009 قُتل من الإسرائيليين 136 فقط، مقارنة بـ 269 قُتلوا في عام 2002 فقط خلال الانتفاضة الفلسطينية، كما ارتفع متوسط دخل المواطن الإسرائيلي منذ 2009 بنسبة 34% وهو معدل أكبر مما حققته الولايات المتحدة وألمانيا.ساعد ذلك على ازدهار اليمين المتطرف الذي يؤمن بإسرائيل الكبرى، ومن ثم يسعى للإبقاء على الأراضي المحتلة، من خلال التوسع في بناء مستوطنات الضفة الغربية، وقد قامت حكومات اليمين الديني بإنفاق ما يقرب من ربع موازنة وزارة النقل على الطرق في الضفة الغربية التي يسكنها فقط 5% من الإسرائيليين.

  • في المقابل تأزم وضع السلطة الوطنية الفلسطينية، وتعاظمت الفجوة بين مستوى دخل المواطن الفلسطيني ونظيره الإسرائيلي فمتوسط دخل الفرد في الضفة الغربية أقل بنسبة 94% من نظيره في إسرائيل في ظل سياسة الإفقار الإسرائيلي للضفة وغزة معاً. وكانت هذه الأوضاع تشير إلى أن الأمور في طريقها للخروج عن السيطرة خاصة في الضفة الغربية، حيث تصاعدت أعمال قتل الفلسطينيين في الضفة بصورة غير مسبوقة خلال السنوات التالية على الانتفاضة حيث تصاعدت أعمال قتل الفلسطينيين في الضفة بصورة غير مسبوقة خلال السنوات التالية على الانتفاضة، ففي عام 2022 قُتل 146 فلسطينياً. وحتى يوليو من عام 2023 قُتل 130 فلسطينياَ.

السؤال إذن من خلال هذه الصورة البانورامية عشية أكتوبر 2023، ما الذي كان ممُكناً فعله في مواجهة هذه الأوضاع؟

يُتبع.

تعليقات

المشاركات الشائعة