أساطير وحقائق من وحى الحرب الإسرائيلية على غزة (2)

 



محمود عبد العزيز

    ناقش المقال السابق أسطورة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، فيما يناقش مقال اليوم شعار إسرائيل الأثير بأنها "واحة الديمقراطية/ الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". 

قد يكون من المناسب أن نختبر صحة هذا الإدعاء وما ترتب عليه في سياقه التاريخي السياسي والاقتصادي المتعلق بالشرق الأوسط نفسه بدءً من لحظة تأسيس دولة إسرائيل منذ أكثر من 75 عاماً، وصولاً إلى لحظة الصدام الحالي. فمع صباح الخامس عشر من مايو 1948 لم تعُد منطقة الشرق الأوسط كما كانت، ارتدت هزيمة العرب أمام العصابات المُسلحة (الهاجاناة) على الداخل، ساد اعتقاد قومي بأن تحرير فلسطين ينطلق من تحرير النظم العربية ابتداءً، فانهارت أنظمة سياسية وصعدت أخرى إلى سدة الحكم، هيمنت حركة القومية العربية وارتفعت شعاراتها ودخلت في مواجهات مباشرة وغير مباشرة مع إسرائيل، مُني المشروع العربي بهزيمة قاصمة في يونيو 1967، ترسخت حقيقة إسرائيل، وبعدما كان العرب يُطالبون بمحوها من على الخريطة باتت أقصى الأماني هي الانسحاب إلى حدود 4 يونيو 1967.

هذه التقاطعات الشكلية والموضوعية بين المشروعين العربي والصهيوني، هي المدخل المناسب لتفكيك أو تفنيد أسطورة الديمقراطية الإسرائيلية في الشرق الأوسط.

إن عمر إسرائيل في المنطقة من عمر بعض دولها تقريباً، فالثورة العربية الكبرى 1916 التي دفعت بتأسيس العراق وسوريا والأردن ولبنان كدول مستقلة عن الدولة العثمانية المُنهارة، واكبت تصاعد موجة الهجرة اليهودية إلى فلسطين والتي استفادت في البداية من الدعم البريطاني، فاضطهاد النازي، ثم تمكنت من تأسيس قوة دفاع ميلشياوية أصبحت لاحقاً عصب "جيش الدفاع الإسرائيلي"، وبينما إسرائيل الوليدة تتلمس الخطى وسط احتمالات ضعيفة للنجاة، دخل الشرق الأوسط العربي في موجة من الانقلابات العسكرية التي بدأت في سوريا مع انقلاب "حسني الزعيم" في مارس 1949، الذي استغل تذمر الجيش السوري بعد الهزيمة في فلسطين، وأصبحت القضية الفلسطينية هي الحاضر الغائب في كل برامج الثورات السياسية والانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة خلال العقود الخمسة المُتبقية من القرن العشرين، وعندما تراجعت النظم القومية بعد هزيمة 1967 وصعدت التيارات الدينية إلى الواجهة اعتبرت أن الهزيمة حدثت بسبب الابتعاد عن الدين وليس عن الديمقراطية، فتحولت فلسطين من قضية وطنية وقومية إلى قضية دينية في المقام الأول رغم أن البُعد الديني "الإسلامي والمسيحي واليهودي" لم يكن غائباً عنها في أي يوم وأي مرحلة لكنه لم يكن أبداً جوهر الصراع.

مُلخص ذلك كله، أن الديمقراطية لم تكن مشروعاً عربياً قومياً لحل الصراع سلمياً أو بقوة السلاح.

    في المقابل حين تأسست إسرائيل، كانت تقدير "بن جوريون" أن الدولة الوليدة لديها نصف احتمال للبقاء وأن هذا البقاء مُعلق بالأساس بنظامها الدفاعي/ العسكري، أي أن نجاح إسرائيل في تثبيت وجودها كدولة يعتمد بشكل جوهري على بناء جيش احترافي قوي، أما الوجه الأخر للقوة العسكرية فهو بناء نظام سياسي لديه قواعد مُتفق عليها ويستطيع الصمود أمام الأزمات المتتالية والمستدامة، أي بناء نموذج سياسي ديمقراطي. 

فكيف يستقيم قيام مشروع سياسي عسكري توسعي في الخارج، وبين بناء ظهير سياسي ديمقراطي في الداخل؟

    الإجابة على هذا التساؤل تحتمل أكثر من من طرح، لكن أختصر هنا في أمرين، أن الديمقراطية لا تعني بالضرورة الليبرالية بما تتضمنه من تسامح وتعايش وقبول للأخر، ولدينا في هذا العالم العديد من النماذج التي تُصنف كديمقراطيات انتخابية لكنها بالقطع ليست ديمقراطيات ليبرالية، والآخر أن إسرائيل ليست استثناءً بين النظم الاستعمارية التي مارست القمع والعنصرية في مستعمراتها، وفي نفس الوقت مارست الديمقراطية في الداخل كما كان الحال مع بريطانيا أو فرنسا مثلاً.

لكن ما هو جدير بالنظر في تفكيك أسطورة "الاستثناء الإسرائيلي" ،أمران يقود كلُ منهما إلى تساؤل:

الأول: أن مركزية الجيش بالنسبة لدولة تواجه خطراً وجودياً لم يترتب عليه أن تستحوذ المؤسسة العسكرية في إسرائيل على السلطة السياسية، (يختلف هذا جذرياً عن احتفاظها بدرجة مهمة من التأثير)، حيث نجحت في بناء مؤسسات تمثيلية/ ديمقراطية يصبح لها اليد العليا في اتخاذ القرار السياسي على الرغم من عدم وجود نص دستوري مكتوب، في حالة أقرب للحالة البريطانية. وهذه المؤسسات المدنية تخضع لقواعد المساءلة والمحاسبة، ولنا في محاولة نتنياهو تحجيم اختصاصات المحكمة العليا مثال على صعوبة تغيير قواعد اللعبة السياسية على المستويين المؤسسي والشعبي، والسؤال هنا: هل إسرائيل هي سبب العجز الديمقراطي في المنطقة أم أن الشرق الأوسط أو العرب هم سبب الاستثناء الإسرائيلي كديمقراطية "وحيدة في الشرق الأوسط"؟!

الأمر الثاني: أن إجبار إسرائيل على السلام يُغير من منطق وجودها القائم على العدوان وديمومة الحرب وبالتالي يحول الاستثناء إلى قاعدة (حتى ولو بمنطق تكتيكي وليس إستراتيجي)، شرط أن يكون قائماً على القوة وبمنطق المنتصر وهو ما أنجزته مصر منذ أكثر من أربعين عاماً، ويقودنا ذلك إلى سؤال واسع وهام: هل السلام مُمكن مع إسرائيل؟ وما هو مستقبل الدولة في ظل المتغيرات الجديدة؟

يُتبع.



تعليقات

المشاركات الشائعة