أساطير وحقائق من وحى الحرب الإسرائيلية على غزة (1)
محمود عبد العزيز
في ذروة الصراع العربي الإسرائيلي، صدرت إسرائيل تصوراً عن جيشها بأنه "الجيش الذي لا يُقهر" بعد أن انتصرت على ثلاث دول عربية في ضربة واحدة وفي أقل من أسبوع واحد. خلقت هذه الحالة الأسطورية سياجاً نفسياً لم يسقط إلا في أكتوبر 1973، وهي الحرب الحقيقية والوحيدة بين العرب واسرائيل.
تُدرك إسرائيل باستمرار أهمية أن تبني عن نفسها صورة ذهنية شديدة الإيجابية حتى وإن كانت أسطورية سواء في محيطها الإقليمي أو أمام العالم. فعندما كانت القوة هى المعيار الحاكم قولاً وفعلاً للنظام الدولي وقت الحرب الباردة كان شعارها أنها القوة التي لا تُقهر. وبعد انتهاء الحرب الباردة وعندما أصبحت شعارات الديمقراطية والحرية والأخلاق هي موضة الزمن الجديد صنعت إسرائيل أسطورتها الجديدة بأنها الجيش الأكثر أخلاقية في العالم!
شعارُ براق وشديد الإيجابية عن جيش لا يتورع أبداً عن ارتكاب أفظع الجرائم الأخلاقية حرباً وسلماً، حتى الولايات المتحدة نفسها وهى القوة الأولى عالمياً و المنخرطة في أكثر من حرب دولية وفي أكثر من صراع لم تجرؤ أو تلجأ لاستخدام هذا الشعار رغم دعاوى بناء ونشر الديمقراطية والقضاء على الإرهاب وغيرها.
السؤال إذن هو لماذا اللجوء من الأصل لهذه النوعية من الشعارات الحربية، والحرب هى الاستثناء السياسي؟
الإجابة ببساطة لأن الحرب في حالة إسرائيل هى القاعدة والسلم هو الاستثناء، وبالتالي فجيشها في حالة استعداد وتأهب مستمرين، ما يعني من ناحية مركزية الجيش في السياسة الإسرائيلية، ومن ناحية أخرى حاجة هذا الجيش العامل إلى غطاء أخلاقي بغض النظر عن عقلانيته أو موضوعيته، المهم أن يتناسب هذا الشعار مع السياق العالمي المُتاجر بالقيم والأخلاق والمُتنفذ بالقوة.
إسرائيل تُدرك أنها تستغفل العالم بهذه الشعارات، فهي تُدرك أن العبرة ليس في تصديق ما تقوله، ولا في تحققه ولكن في تثبيت الرواية وتكرارها على شاكلة الدعاية النازية "اكذب اكذب حتى يصدقك الناس" ولذلك فهي لا تبذل أدنى مجهود حقيقي لتجعل هذه الشعارات حقيقة، ولا تتوانى في الاستمرار المُطرد في سياسات الأبارتهايد والتوسع والاستيطان العنصري.
والمفارقة في هذا السياق أن الاستيطان الأوروبي والتطهير العنصري ضد الشعوب الأصلية في الأمريكتين تم تحت شعارات "حضارية وأخلاقية" تتعلق بالتحديث والتطوير الحضاري وتفوق الجنس الأبيض، وهو ما استمر جزئياً في حالة جنوب أفريقيا حيث تخلى الأبارتهايد هناك عن شعارات التطوير والتحديث واستمر قائماً على التصورات العنصرية المتعلقة بتفوق العنصر الأبيض على العناصر الأفريقية السوداء التي هي أدنى بالضرورة. هذه العنصرية التي جعلت الجنرال ورئيس وزراء جنوب أفريقيا في ظل الأبارتهايد "جان سموتس" يقول أثناء حضوره مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919، أن هناك إثنين يُمثلان قيمة الصبر في العالم، هما الحمير والزنوج!
في حالة إسرائيل فإن الاستيطان لا يقوم على تصورات عنصرية تتعلق بتفوق اللون، لأن اليهود السود هم جزء من القومية اليهودية (الأكثر تماسكاً مقارنة بالعديد من بلدان الشرق الأوسط) وإن كانوا في مرتبة أدني داخل المجتمع الإسرائيلي، ولا لشعارات تتعلق بتمدين الفلسطينيين أو تأهيلهم للحكم الذاتي ريثما يحصلون على الاستقلال كما روج الاستعمار الأوروبي خلال حقبة الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين.
تُمارس إسرائيل الاستيطان والتوسع لأسباب وجودية مُتعلقة باستمرار كيان الدولة نفسه، وبما يتوافق مع فلسفة استمراريتها، وهذا هو جوهر أزمة إسرائيل، وبالتالي فهذا الاستيطان والتوسع لا يرتبط بقيمة معيارية وتجميلية وإنما بقيمة وجودية. لكنها قد تحتاج إلى "الأخلاق السياسية/ النسبية" وهو مفهوم مكيافيللي يختلف عن الأخلاق الفردية ذات الطبيعة المُطلقة، وهذا النوع يُمكن معه انتهاك الأخلاق نفسها في سبيل تحقيق أهداف ومصالح قومية، وبهذا المعني يُمكن أن نُفسر جزئياً شعار "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، المشكلة إذن ليست في المحرقة النازية في حد ذاتها، المشكلة أن المحرقة لم تكن يهودية!
أعطت إسرائيل هذه الشعارات تبريرات أكثر واقعية فهي تشكو دائماً من أنها تعيش في محيط من العداء المستعر، هذا العداء هو ما دفع "جولدا مائير" للقول يوماً، بأن السلام سيتحقق "عندما يحب العرب أطفالهم أكثر مما يكرهوننا"! وهو أحد أبعاد التعاطف الغربي مع إسرائيل بطبيعة الحال.
عندما تُصدر إسرائيل هذه الشعارات فهى لا تتوقع الايمان بها وإنما الانصياع القهري لها، وليس أدل على ذلك أكثر من المشهد الذي نُقل لمندوب إسرائيل في مجلس الأمن الدولي "جلعاد أردان" عندما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو جوتيريش" وضع إسرائيل على القائمة السوداء أو قائمة العار للدول الأكثر انتهاكاً لحقوق الأطفال، قال "أردان" أنه يشعر بالاشمئزاز من هذا القرار، ألا يعرف الأمين العام للأمم المتحدة أن جيش إسرائيل هو الأكثر أخلاقية في العالم؟! وما يجب أن يعرفه العالم بالنسبة لهذا المندوب هو ما تقوله إسرائيل، ولو كان صادقاً لاستكمل وقال بأسلوبه "ألا يعرف هذا الغوتيريش" أن الولايات المتحدة هي نموذج الحرية والديمقراطية والليبرالية في العالم؟ فهما وجهان لحقيقة واحدة، حقيقة النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مروراً بانتهاء الحرب الباردة ووصولاً إلى هذه اللحظة.
تعليقات
إرسال تعليق