بإيجاز عن إيران: في مآلات أنظمة التوحش الديني.

 


محمود عبد العزيز.

    تشهد إيران منذ 17 سبتمبر الجاري مظاهرات عنيفة امتدت إلى أكثر من 80 مدينة حسب الأخبار المحدودة التي تصل إلى وكالات الأنباء، والتي تداولت أمس 23 سبتمبر، أخبار استيلاء المحتجين على مدينة أشنوية بمحافظة أذربيجان غرب البلاد، فيما وصل عدد قتلى الاحتجاجات إلى 35 قتيلاً حتى الآن.

وقد شاهدنا خلال هذه التظاهرات داخل وخارج إيران حضوراً لافتاً للمرأة الإيرانية التي بدأت في خلع الحجاب والتلويح به محروقاً، احتجاجاً على مقتل الشابة "مهسا أميني" على يد "دورية الإرشاد" والمشهورة بشرطة الأخلاق، التي تتابع مدى التزام الإيرانيات بالزي الديني الذي فرضته سلطة رجال الدين منذ الثورة في 1979

لا أعتقد مثلما يشير الكثير من متابعي الشأن الإيراني أن تؤدي هذه الاحتجاجات إلى تغيير جذري في بنية السلطة في إيران، فليست تلك هي المرة الأولى التي تشهد فيها البلاد احتجاجات شعبية واسعة، بل شهدت انتفاضة الشباب المطالب بالحرية والديمقراطية في 2009، وكذا احتجاجات عنيفة في أعوام 2017، 2018، و2019. فالنظام الإيراني ليس من تلك الأنظمة التي يمكن أن تسقط بالضربة القاضية، لكن يمكن أن يسقط بضربات موجعة متتالية على مدى زمني طويل أو متوسط، وهو السيناريو ذاته الذي تعرض له الشاه السابق محمد رضا بهلوي، حين واجه احتجاجات دينية متتالية منذ الستينيات ضد ما عرف باسم "الثورة البيضاء-1963" التي أطلقها الشاه لتحديث الاقتصاد والمجتمع، وحتى سقوطه في 1979

لكن ما اعتقده مميزاً في الاحتجاجات الحالية، هو ما يمكن أن نسميه بالسقوط المعنوي لسلطة رجال الدين ومن ثم للأساس الذي قامت عليه ما يُعرف بالجمهورية الإسلامية، فالإحصاءات والشهادات الواردة من إيران تشير إلى ارتفاع نسب الإلحاد الديني كمظهر من مظاهر الاحتجاج على العنف الذي تمارسه السلطة باسم الدين والاخلاق، وليس أدل على هذه المؤشرات من تلك الصور التي تُظهر الفتيات الإيرانيات وهن يحرقن الحجاب في الشوارع، وهى نتيجة طبيعية ضد الرمز الذي تحول إلى سلطة قهر اجتماعي وسياسي ليس ضد المرأة الإيرانية وحدها بل ضد الإيرانيين عموماً

إن هذا السقوط المعنوي، يعني أن شرعية الوجود الأخلاقية لنظام الملالي تتآكل، ولن أقول سقطت لأن النظام لازال قائماً ولديه قواعده الاجتماعية المتصلة به والمنتفعة من وراءه. لكن هذا السقوط هو البداية في سلسلة متواصلة ستنتهي بنهاية النظام فعلاً عندما يتوافر للاحتجاجات الشعبية قيادة واضحة سواء من داخل النظام أو خارجه، بالإضافة إلى انحياز بعض هياكل الدولة كالقوات المسلحة، سواء أعلنت انحيازها الفعلي لحركة الجماهير، أو اكتفت بالحياد دون التعرض للاحتجاجات

وأعتقد أن من بين المؤشرات التي ستخبرنا بحقيقة تغير اتجاه السلطة داخل إيران، هو انسحابها أو تخفيف دعمها للعناصر التابعة لها خارج إيران، كالحوثيين في اليمن، أو روافد الحرس الثوري في العراق ولبنان وسوريا، حيث يعني ذلك الانسحاب انشغال إيران بداخلها المضطرب وعجزها عن توفير الدعم الاقتصادي والعسكري لهذه الجماعات، رغم أن الحرس الثوري لديه مؤسسات مالية منفصلة عن الدولة تدعمه بشكل مستقل دون أن يضطر للاعتماد الكلي على ميزانية الدولة

ومن بين المؤشرات الأخرى الدالة على أزمة النظم السياسية بصفة عامة، هو فقدان التوازن بين نخبة الحكم وهى أزمة النظام الحاكم في إيران حالياً، فالتوازن الذي كان قائماً بين الجناح المتشدد، والجناح الإصلاحي لم يعد قائماً، لأن الجناح الإصلاحي الذي أعطى أملاً لكثيرين بأن الأوضاع في إيران قد تتغير من الداخل لم يعد له وجود يُذكر داخل السلطة، فالرئيس الحالي "إبراهيم رئيسي" محسوب على التيار المتشدد، فيما يتسع الدور السياسي للحرس الثوري الذي يُمارس العنف ضد المواطنين بالقدر الذي يمارسه ضد الأعداء.

 في هذه الحالة فإن النظام الإيراني دخل في مرحلة التصلب، وعندما تسقط النظم السياسية في هذه الدائرة، يصعب أن تتبني أي سياسة اصلاحية أو أن تُقدم أي تنازلات خاصة مع الضغط الاقتصادي والخارجي. عند هذا الوضع يصبح المزاج العام للسلطة سيئاً ولن تجد امامها سوى أن تمارس مزيداً من القمع والعنف الذي سيبطُل مفعوله عند لحظة معينة يحدث فيها انكشاف تام لنظام الملالي فإما أن تسقط سلطتهم إلى الأبد ويحل محلها نظام جديد في حال التوافق عليه، أو أن يدخل المجتمع في حالة من الفوضى كتلك التي عاشها ويعيشها العراق منذ الاحتلال في 2003

الأهم في هذه الاحتجاجات هي الرسالة التي يجب أن تعيها بعض المجتمعات التي تشهد حالة من الهوس باسم الدين والتدين، فالواقع في إيران اليوم هو الصورة المستقبلية لكل مجتمع قرر أو قد يُقرر أن ينحاز إلى نموذج الدولة الدينية اعتقادا بأن الدين هو الحل وأن "الناس ابتعدت عن ربنا"، فلا يوجد ولن يوجد نموذج لدولة دينية نجح في بناء دولة مزدهرة او مجتمع مطمئن ومستقر. من أفغانستان طالبان إلى إيران الملالي، وصولاً إلى سودان البشير. فجميعها أنظمة باعت الوهم إلى مواطنيها، واشترت به خليطاً من سياسات النهب والافقار والسرقة والفساد الذي وصل إلى مستويات لم يكن يتخيلها أكثر المتابعين تشاؤماً

إن الكبت الاجتماعي والتوحش باسم الدين لن ينتهي إلى بناء مجتمع الفضيلة، كما يتصور البعض الكثير، بل إلى تفجير طاقة اللامبالاة ثم طاقة العنف الذي قد يُفجر أنهاراً من الدماء، حيث لا غالب ولا مغلوب سوى الشعوب المكلومة التي تدفع الثمن من مستقبلها وعمرها الذي ضاع بين الفرص التي أُهدرت أو تلك التي ستُهدر


تعليقات

  1. Omnia Ibrahim Mohammed24 سبتمبر 2022 في 9:12 م

    مبدأيا يا دكتور المقال أكتر من رائع بس كان من الأفضل أن حضرتك تذكر أن هذه الأنظمة الدينية المزعومة هدفها مش إقامة الدين بل بالعكس التكالب على السلطة بأسم الدين لأن اعتقد هتفرق كتير وبجد بنتعلم من حضرتك 🙏🙏

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً جزيلاً يا أستاذه أمنية، كلنا بنتعلم من بعض. أعتقد إن مسألة النوايا مش هتفرق كتير، سواء كانت هذه الأنظمة حسنة النية فعلاً في تطبيق "الدين" أو سيئة النية، النتيجة هتكون واحدة في النهاية فالخلط بين الدين والسلطة هيحول الدين لأداة وظيفية بتحقق غرض معين متعلق بالسيطرة والكبت أو المنع، ولذلك مجال إقامة الدين الحقيقي هو نفس الانسان بأن ينعكس في سلوكه وأقواله، ولذلك الحديث الشريف يقول "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده". وده هيظهر تلقائياً في النظام الاجتماعي والسياسي دون الحاجة لشعارات وخلافة.

      حذف
  2. بالفعل إيران هي اروع مثال للعشوائية في تطبيق الدين والعقل عن جوانب الحياة الأخري ، مقال مميز ♥️

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة