سقوط جسر لندن: نقاش عن الملكية والديمقراطية وأشياء أخرى.

 



محمود عبد العزيز.

    خلال عشرة أيام انشغل الملايين حول العالم بمتابعة التجهيزات والفعاليات المتعددة المرتبطة بجنازة الملكة اليزابيث الثانية، وهي الترتيبات التي يشاهدها البريطانيون مثلنا للمرة الأولى منذ 70 عاماً. لكن اللافت هو ما يمكن أن تكون هذه الأحداث قد أثارته لدى من اهتم بها أو حتى تابعها من بعيد.

انشغل العديدين في بلادنا وبلداناً أخرى بمراجعة الإرث الاستعماري البريطاني أو حتى بالسخرية من كثرة الترتيبات البروتوكولية والطقوس الجنائزية المرتبطة بالملكية البريطانية والتي تعود في جذورها إلى العصور الوسطي في بلد هو أول من أطلق الثورة الصناعية.

بينما انشغل آخرون سواء في بريطانيا أو خارجها بمستقبل النظام الملكي، وربما مستقبل المملكة المتحدة نفسها، وبطبيعة الحال مستقبل الكومنولث الذي تترأسه الملكة الراحلة ويضم ١٥ دولة أخرى بخلاف المملكة المتحدة، وأعتقد أن هذا الجدال من المهم أن نشتبك معه بشكل أو بأخر سواء بعين التفحص أو ربما بعين التعلُم. هذا التفاعل على صلة ببُعدِ هام أعتقد أنه غاب عنا في تناول الحدث وهو قضية الديمقراطية والاستقرار السياسي والاجتماعي في بريطانيا وعلاقته بالنظام الملكي. متابعة هذا الجدل مفيد على أكثر من مستوى:

 الأول وهو الأهم، متابعة كيف تدير الشعوب قضاياها الحيوية والجوهرية في إطار من القانون وتحت مظلة المؤسسات الوطنية دونما اشتباك عنيف تصبح نتيجته خسارة الجميع.

والثاني أنه من المهم والجيد خاصة للمهتمين بالشؤون الدولية أو شؤون وتطورات النظم السياسية، متابعة هذا التفاعل للتدبر والتعلم كذلك. فبريطانيا حالة فريدة وهامة ضمن نماذج الدول والنظم السياسية، فهي قد خبرت الحرب الأهلية أكثر من مره وقررت من تلقاء نفسها وبإرادة مواطنيها ونخبتها ألا تنزلق إلى هذا المصير مرة أخرى. وهي كذلك اختبرت نظامي الحكم الجمهوري والملكي، وقررت بالمثل أن تنحاز إلى خيار الملكية الدستورية المقيدة الذي تطور تاريخياً، وارتبط هذا الخيار بمصير الأمة الإنجليزية والدولة البريطانية.

فالملكية في بريطانيا ارتبطت تاريخياً بوحدة البلاد أو الجزيرة البريطانية (تعود نشأة المملكة المتحدة بشكلها الحالي إلى سنة ١٨٠٠ مُكونة من إنجلترا واسكتلندا وويلز وأيرلندا، ولاحقاً أيرلندا الشمالية بعد استقلال أيرلندا سنة 1927). التي لم تُعرف تاريخياً متحدة والأهم مستقرة إلا في ظلال هذا النموذج وهو ما يجعل الأمر معقداً للغاية إذا قررت بريطانيا يوماً أن تتخلى عن النظام الملكي في البلاد. سيكون عليها عند هذه اللحظة وقبلها أن تبلور هويتها الجديدة في ظل وضعها الجديد خاصة وأن نزعة الاستقلال بين مكونات المملكة المتحدة أكبر من النزعة الجمهورية، بل إن الملكية بشكل أو آخر جزء من التصور العام لبلد موحد ومستقر ومتصل تاريخياً وتلك أحد أبرز الأدوار التي تلعبها الملكية البريطانية، وقد غاب هذا البعد عن الأذهان وعن النقاش العام في بلادنا.

كما أن بريطانيا نموذجا لمجتمع ارتفعت فيه الأعراف والتقاليد إلى مستوى أعلى من الدستور المكتوب، فتلك أمة تُعرف نفسها بتقاليدها وتحب أن يعرفها الآخرون من هذا الباب حتى لو بدت للبعض بالية أو مُكلفة مالياً، لكنها لديهم عزيزة تعبر عن روح التواصل التاريخي لأمة حديثة بمعايير الزمن يبلغ عمرها ١٠٠٠ عام أو أكثر قليلاً.


قد يتصور البعض أن وفاة الملكة ستضع نهاية النظام الملكي في البلاد، وانبرى الكثيرون للتكهن أن تشارلز الثالث قد يكون آخر الملوك، وربما عزز من هذه التكهنات ان كلا التشارلزين الأول والثاني لم يكن وضعهما بأفضل حالاً من هذا التكهن، فتشارلز الأول (1625-1649) جرى إعدامه على يد أنصار البرلمان، وارتبط عهده بالحرب الأهلية الأولى والثانية، وخلال السنوات التالية أسس أوليفر كرومويل ما عُرف باسم كومنولث إنجلترا الحر، واتسم عهده بالاستبداد. وقد شكلت أحداث هذه الفترة شكلت جزءً من الوعي التاريخي للبريطانيين عن فكرة الثورة وما يمكن أن تسفر عنه، فاستدعى البرلمان تشارلز الثاني (1660-1685) ليصعد على عرش البلاد باعتباره خليفة لأبيه، لكن بضمانات دستورية يلتزم بها الملك أمام البرلمان. وقد ساهمت الثورة الفرنسية فيما بعد بتشكيل جزءً من الذاكرة التاريخية للإنجليز بحيث جعلتهم رافضين لفكرة الثورة وغير محبذين للأفكار الجمهورية، خاصة إذا كان النظام الملكي المقيد يؤدي وظيفته الأساسية في حفظ الاستقرار والحفاظ على وحدة الأمة ومكوناتها المختلفة، وكذا التوازن بين الماضي والحاضر في مجتمع يتطور بسرعة قد تفوق استيعاب الكثيرين. 


لوحة تعبر عن إعدام الملك تشارلز الأول، يناير 1649


قد يفتح هذا النقاش الباب قليلاً أمام العلاقة بين الديمقراطية والملكية الدستورية، فالبعض قد يتصور أن العلاقة بينهما سلبية، في حين أن ستة دول بين أكثر عشرة دول ديمقراطية في العالم هي ملكيات دستورية،أى أن ثمة علاقة ارتباطية بين الملكية الدستورية من جهة والديمقراطية من جهة أخرى.

لكن ذلك أيضاً لم يمنع شعوب هذه البلدان من مناقشة جدوى النظام الملكي، وأفضلية النظام الجمهوري في مقابله، خاصة وأن الكثيرين لديهم تصور محدد وربما محدود حول فكرة الانتخاب للمناصب العامة في البلاد، فالملك في الحالة محل النقاش لا يمتلك سلطة فعلية تتطلب أن يتلقى التفويض مباشرة من المواطنين، لكنه يمتلك سلطة شرفية وتاريخية، ومن ثم يُعتبر منتخباً بشكل أو أخر ضمن دائرة التوافق العام، أو الإرادة العامة التي اتفقت على تبني أو الاستبقاء على النظم الملكية، أي أن الملك في هذا الوضع يمتلك شرعية الوجود وشرعية الاستمرار بناء على القبول العام له شريطة أن ينحصر دوره كرمز للبلاد ووحدتها وتعبيراً عن الاتصال الحضاري والتاريخي لها. ومادام لم يتجاوز هذا الدور فإنه لا يشكل خطراً على الاستقرار السياسي بل يمثل ضمانة له، خاصة في ظل مؤسسات دستورية قوية لا تسمح لفرد أن ينفرد بالسلطة أو يحتكرها.

ومن الجدير بالذكر أن الملكية البريطانية كانت تاريخياً تثير السخط العام كلما زاد تدخلها في الشؤون العامة والسياسية، سواء بالاعتراض على قرارات حكومية أو معارضة بعض روساء الحكومات، وقد كان ذلك من أسباب مناداة البعض بالنظام الجمهوري، لذلك فإن المؤسسة الملكية الحالية حريصة باستمرار على إبقاء نقاشات "شاى الثلاثاء الأسبوعية" بين الملكة/ الملك، ورئيس الحكومة في طى الكتمان، بحيث تبقي نصائحها وأرائها وراء ستار لا يستفز المواطنين.

وبمناسبة الحديث عن مستقبل النظم الملكية، فقد رصد الباحثون، ما يقرب من 32 استفتاءً حول مستقبل الملكية في عدد من البلدان حول العالم، منها 18 في أوروبا وحدها، وقد انتهت أغلبها إلى الموافقة على إبقاء الملكية كما هي كالنرويج وبلجيكا، أو استعادتها كإسبانيا، أو إلغاءها كإيطاليا واليونان. فيما تواجه ملكيات أخرى خطر هذا النوع من الاستفتاء في حال قرر المواطنون رفض النظام الملكي، ومن بين هذه الحالات الحالة البريطانية، حيث ينشط من يُعرفون أنفسهم بالجمهوريين في المطالبة بإنهاء الملكية في البلاد وإعلان الجمهورية، منطلقين من الفكرة السابقة بشأن الانتخاب والدور السياسي، بالإضافة إلى مسألة أخرى متعلقة بمدى ملائمة التقاليد الملكية المنتمية للقرون الوسطي، لبريطانيا الحديثة والمتقدمة، فضلاً عن جدوى الانفاق المالي من جيوب دافعي الضرائب على الأسرة الملكية، وهو جدل يجد صداه في بلد هو أول من عرف وطبق القاعدة الأساسية التي قامت عليها الديمقراطية التمثيلية "لا ضرائب بلا تمثيل".

وتلك النقطة بالذات هي أحد تعهدات الملك الجديد، الذي يؤمن بأن أسرة ملكية صغيرة ذات نفقات أقل، هي خيار أفضل للدولة ولمستقبل العائلة الملكية.

قبل وفاة الملكة إليزابيث بشهور أثارت الحكومة الاسكتلندية رغبتها مجدداً في عقد استفتاء على الانفصال عن المملكة المتحدة في اكتوبر 2023، وهو الأمر الذي رفضته حكومة بوريس جونسون التي تعتبر أن أمر الاستفتاء قد حُسم في 2014.وأعادت ليز تراس تأكيد الرفض حيث تعهدت بالدفاع عن الاتحاد.  

فيما أظهرت استطلاعات رأي في مايو الماضي  أن 35% من الأسكتلنديين يعتقدون أن وفاة الملكة إليزابيث قد يكون اللحظة المناسبة لتأسيس جمهورية، فيما تتمتع الملكية بالنسبة للبريطانيين عموماً بنسبة دعم تصل إلى 60%،وفي حال اتخذ الاسكتلنديون قرارهم بالاستقلال فقد يصبح الإبقاء على الملكية خياراً مشتركاً بين البلدين أي أن يظل الملك الآن رمزاً متصلاً بين الطرفين،  بشكل عام فإن دعم البريطانيين لبقاء الملكية قد يكون أكبر من دعم مكونات المملكة للاتحاد في دولة واحدة.  

دون الدخول في كثير من التفصيلات، أستطيع القول دون مبالغة، أن وفاة الملكة إليزابيث قد تعطى -خلاف ما يتصور الكثيرون- قبلة حياة للملكية البريطانية ولوحدة البلاد بصفة عامة، وقد تكون ساهمت بشكل أو أخر في تسهيل مهمة الملك الجديد الذي سيكون عليه أن يُنفذ ما تعهد به بشأن تحديث المؤسسة الملكية البريطانية من جهة، والأهم أن يظل رمزاً لوحدة البلاد والكومنولث بصورة جزئية. ولتعزيز هذه الوحدة قد يختار الملك أن يُتوج رسمياً كملك في اسكتلندا، حيث كان أخر الملوك الذين توجوا هناك هو تشارلز الثاني، وربما في ويلز حيث تُوج من قبل كولي للعهد.

وقد كانت الملكة الراحلة على وعى بمقولة تاريخية للسياسي والاقتصادي البريطاني "والتر بيجهوت" خلال القرن الثامن عشر حين انتقد قلة الظهور العام للملكة فيكتوريا وما قد يثيره من مخاوف بشأن مستقبل الملكية "من السهل نسيان كل ما هو غير مرئي، فالرمز الفعال يحتاج دائماً إلى الظهور". لذا حرصت أن تتابع بنفسها أدق تفاصيل ترتيبات جنازتها حتى أنها اختارت الترانيم المُميزة التي ستُتلى في صلاة الجنازة وهى نفسها التي تُليت في حفل زفافها، وقد كانت وصيتها ألا تكون مراسم الجنازة مملة أو رتيبة، حتى تحقق الغرض السياسي والاجتماعي منها. 

تبقي ملاحظة هامة في هذا النقاش، أن أحداً لم يتعمد إثارة نقاش حول الأصل العرقي للأسرة الملكية، التي ترجع أصولها إلى أسرة ألمانية الأصل عُرفت حتى سنة 1917 بآل هانوفر نسبة إلى الإمارة الألمانية التي تحمل الاسم ذاته، وتحول اسمها بعد ذلك إلى أسرة وندسور. ما جدوى هذه الملاحظة؟... لا أدري!


تعليقات

  1. في هذه الحالة يقع المواطنون الإنجليز حاليا بين نارين إما القبول بالضرائب للأسرة المالكة وإما التحول للجمهورية ولكن بخطر ضعف الاستقرار ، مظنش أن الحكومة البريطانية مش عاملة حسابها علي الموضوع ده وان اكيد في حالة الثورة علي الملكية هيكون ليها موقف واضح وصريح لان مظنش أنهم هيفرطوا في رمز البلاد ويضيعوا الاستقرار ولو كان بسيط بسهولة

    ردحذف
    الردود
    1. لا أعتقد ان المسألة هتوصل لثورة أو أى حاجة. النظام الملكي له وظائف سياسية واجتماعية تتعلق بوحدة البلاد والحفاظ على التقاليد، باعتباره رمز للسيادة. في حال قرر المواطنون هناك إلغاء النظام الملكي وهذا مستبعد في المدى الزمنى القريب، فهذا يعني التخلى بشكل أو أخر عن وحدة المملكة المتحدة أو الكومنولث اللى الملكية عنصر جوهري في بقاءها. طبعا مهم نشوف إدارة النقاش والتفاعلات داخل النظم الديمقراطية وإزاى نقدر نستفيد من ده.

      حذف
  2. انتظر منك تتكلم علي الكومنولث ♥️

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة