عن الاستقطاب والتنوير والتيار المحافظ التنويري (1)
في أغسطس 2016، كتبت مقالاً بعنوان "حتى لا يصبح التنوير خرافة"، ناقشت فيه ما أعتبره مبادئ لازمة وأسس لا غني عنها لمسيرة التنوير في مصر. جاء المقال حينها على وقع حالة الاستقطاب الاجتماعي والديني، وهى الحالة المستمرة إلى اليوم، حيث أخذت أبعاداً أكثر خشونة، وربما خطورة. ذكرت حينها أن مبادئ التنوير الذي يجب أن يكون، هى حرية العقل، وحرية الضمير، والإيمان بالدولة الوطنية المصرية، وأعتقد أنه يلزم الآن إضافة حرية التنظيم إلى هذه المبادئ الثلاث.
وعلى الرغم من أهمية هذا المبدأ في السياق السياسي بصفة عامة، إلا
أنه ذا أهمية تتصل بموضوع هذا المقال، الذي يشتمل على ما يمكن أن أعتبره دعوة
للتفكير في مدى الحاجة لتيار تنويري محافظ، أو تيار محافظ تنويري.
قد يتصور البعض أن كلمتى المحافظ والتنويري لا يجتمعان منطقياً في
جملة واحدة. بيد أن الحقيقة خلاف ذلك، فالاعتقاد في التناقض بين الكلمتين ناتج من
سوء التقدير أو اختلاط في الفهم لكلمة المحافظة/ Conservatismبحيث يمكننا القول أن التيار المحافظ الذي أعنيه قد ساهم
تاريخياً سواء في أوروبا أو في بلادنا، بانجاز العديد من القفزات الاجتماعية
والسياسية الهامة، خاصة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية التي اتجهت فيها
تيارات اليمين واليسار إلى الوسط. علاوة على ذلك فإن مسمى تيار التنوير المحافظ،
قد يكون على صلة أراها قوية بحالة "صراع الأضداد " الذي يعيشه مجتمعنا
اليوم. صراعاً نجده على مستويات مختلفة، في نقاشات وتعليقات المواطنين على وسائل
التواصل الاجتماعي أو في مساحات الاجتماع العام كالمواصلات والقهاوي والشوارع.
إن صراع الأضداد هذا، يدفعنا إلى الاعتراف الصادق بأن المزاج
العام للمواطنين أصبح سلفياً ليس فقط بالمعني الديني بل بالمعني الاجتماعي
الشامل، حيث أصبح التشدد أو التطرف هو السمه الغالبة على الخيارات اليومية
والتفاعلات الاجتماعية، أى أن أغلب المواطنين إذا خُيروا بين وسطين لإختاروا
أكثرهما تشدداً.
على النقيض نجد أن ما اصطلحنا على تسميته بتيار
التنوير، ومن أطلقنا عليهم تنويرين، قد دخلوا أو أُدخلوا في أزمة، وبناء الفعل
للغائب يهدف إلى افتراض حسن النية في تصرفات من اُحتسبوا على هذا التيار- وبافتراض
أيضاً أنه تيار بالفعل وليس مجرد أصوات تخرج من هنا وهناك بطريقة عشوائية- لكن
الأوقع أننا أمام حالة من الاستقطاب بين الأفكار والتصورات والأراء بشأن مختلف
القضايا الاجتماعية والدينية، وبات مؤكداً أن هذه الاستقطاب قد تحول في لحظات
مختلفة إلى عنف مادي رأيناه ونراه يومياً. ويبقي الخطر قائماً في أن ينتقل
العنف بشقيه المادي واللفظي إلى دائرة العنف المنظم والممنهج لا قدر الله.
وبجملة الاعترافات، فإن تيار التنوير أو ما
يمكن أن نسميه بتيار التفكير الحر قد لحقت به سمعة سيئة بفعل الدعاية السوداء باسم
الدين أو التدين، وبالتأكيد بفعل الوصاية التي بات المجتمع يمارسها تجاه نفسه،
استناداً إلى منظومة من الأعراف والتقاليد التي حلت محل الفضائل الانسانية.
إن حديثاً عن التنوير قد يبدو
للبعض ضرباً من الرفاهية في خضم أزمة اقتصادية عسيرة، لكن هذه الأزمة مهما طال
أمدها ومهما كانت تبعاتها وتأثيراتها لن توقف مسيرة الوطن ولا حركة التاريخ. نعم
قد تترك بصمات شديدة السلبية لكنها لن تحكم على الأمة بالفناء. كما أن الحالة العامة
في المجتمع لا ينفصل فيها الوضع الاجتماعي عن السياسي عن الاقتصادي، وبطبيعة الحال
عن الديني والثقافي، ومن ثم فالعلاج يجب ان يكون شاملاً، ولهذا يطرح المقال مبادئ تتقاطع مع هذه الأسباب العامة.
تستند حرية العقل إلى مقولة الإمام علىَ عليه السلام "لا تكلفوا عقول أبنائكم بعقولكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، وهى المقولة التي جرى تفعيلها في سياق مختلف من خلال مبدأ التنوير "كن جريئاً فى إستخدام عقلك"، وهى المقولة التي
اعتمدها الفيلسوف الألمانى "كانط" شعاراً لعصر التنوير في أوروبا، تشجيعاً
للانسان الأوروبي على إستخدام العقل فى النطر للأمور النظرية والعملية، حتى يتحرر
من ربقة جهله المنعقد بالخرافة، وأغلال خوفه من سطوة المؤسسة الدينية/ السياسية،
والتي احتكرت الحقيقة المُطلقة استناداً إلى أحكامها اليقينية وقدرتها على مصادرة
المجال العام لتفرض فيه رؤية واحدة لا تقبل النقاش ولا تحتمل النقد. فقط الطاعة العمياء تحت وقع المقصلة أو
المحرقة التي قد تفصل رأساً أوتحرق جسداً تجرأ على أن يأتي بفكرة، ناهيك عن الفعل
والحركة.
ويتصل بحرية العقل، حرية الضمير،
أى الحق في أن يُشكل المواطن منظومة قيمه واعتقاداته الخاصة ليعبر عنها في فضاء من
الحرية المسؤولة، والمسؤولية المنضبطة بالقانون والدستور، وهو ما ينقلنا إلى الشرط
الأخر وهو الإيمان بالدولة الوطنية المصرية كإطار جامع وشامل لجميع المواطنين
باختلاف أشكالهم ونحلهم وتوجهاتهم، ولا يعتبر هذا الشرط من قبيل
الشروط المُكملة بل هو شرط وجودي لازم، فالخبرة التاريخية والواقعية تشير إلى أن
الوطن الجامع هو الصيغة الوحيدة التي يمكن لها أن تنجح وتستمر وتضمن للمجتمع أن
يعيش في سلام ووئام، ومن ثم فإن من يرفض الدولة المصرية الوطنية كإطار عام وجامع
لا يكون على صلة بموضوع هذا المقال.
وبطبيعة الحال فإن حرية
التنظيم، تصبح هى الأخرى شرطاً هاماً ولازماً، فحرية الفكر والضمير لن يكون
لهما معني دون أن يتحولا إلى كتلة اجتماعية ووطنية تعبر عنه، وتدافع عن قيمه في
إطار من الدستور والقانون. وقد يتصور البعض أن أصل حالة الاستقطاب وصراع
الأضداد القائم مجتمعياً الآن يتعلق بأسبابه السياسية في المقام الأول، ومن ثم
فالحل يجب أن يكون انفتاحاً سياسياً في المقام الأول كذلك، لكننى أتصور مع التسليم جزئياً بصحة الافتراض السابق، أنه من المهم أن نضع في خلفية المشهد الخبرة التاريخية التي
تشكلت خلال أكثر من عشر سنوات مضت، حيث كان الانفتاح السياسي غير المسؤول ليس سوى حلقة من حلقات الاستقطاب الواسع الذي طغى على المشهد في عامى 2011، و 2012، وكاد
أن ينفرط عقده في 2013 لولا أن تلطفت بنا الأقدار. لذا فإن الانفتاح المطلوب يجب
أن تم في إطار من التوافق الوطني، وأقول وطني لأن ما هو
دون ذلك أو فوقه لن يصلح كصيغة للتعايش ولن يجد الوسيلة للاستمرار.
لماذا إذن التيار المحافظ
التنويري؟
قد يقول قائل أن الحل مع
المزاج العام المتشدد، هو الصدام، أياً كانت الظروف، ومهما كانت العواقب، وقد يقول
أخر أن الحل هو التسليم لهذا التيار الجارف واتخاذ خطوة إلى الخلف، ويقول أخرون
وأنا منهم، بأن الحل هو التعامل الجراحي مع هذا الوضع، بالاقتراب الحذر والمعالجة
الهادئة والموضوعية.
إن أى مجتمع لا يمكن أن يعيش بلا كوابح، وبالقدر ذاته لا يعيش دون قوى تقدمية تسير به إلى الأمام وتقفز به عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، وما بين الكوابح والانطلاق يُخلق التوازن العام للمجتمع بحيث يعيش في سلام، وهذا أيضاً ما يمكن لهذا التيار أن يقوم به في الوقت الراهن، حيث يقدم الطمأنينة هنا وهناك، ويحافظ في الوقت ذاته على مكتسبات المجتمع التقدمية والقانونية ويشد عليها بالنواجذ. والأهم أن يوجه دفة النقاش العام إلى القضايا الهامة والجوهرية ويبتعد عن الاثارة، ومن ثم يكتسب ثقة الأغلبية أو التيار العام من المواطنين.
هذا التيار العام في المجتمع يحتاج إلى هدنة وإلى الاحساس بالطمأنية، يحتاج أن يستوعب أن الفضائل في مأمن وأن الدين بسلام، وأن التدين مُرحب به. لكن في الوقت ذاته فإن هذا التيار يحتاج إلى الضبط الاجتماعي والقانوني، فعليه أن يدرك أن الوطن كما يتسع للمتدينين فهو أيضاً يتسع لغيرهم، وبالقدر الذي يرفض فيه الاستهزاء بالدين أو ما يتصل به من قيم وليس من أشخاص، فإنه كذلك يرفض الاساءة لأى دين أخر وأي قيم أخرى. وهذا أول ما يمكن أن يقدمه التيار المحافظ التنويري للمجتمع.
يبقي أن نشير إلى أن هذا
التيار ليس جديداً على السياق التاريخي للوطن، كما أن نشأته وتطور حركته تحيطها
التحديات المختلفة. لكن مناقشتها ستكون محلاً للتناول في مقال قادم بمشية الله.
♥️♥️
ردحذف