الشعب يُريد: قراءة في أبعاد المشروع السياسي للرئيس قيس سعيد.

الشعب يُريد: قراءة في أبعاد المشروع السياسي للرئيس قيس سعيد.


مجلة الديمقراطية: العدد 85، يناير 2022



محمود عبد العزيز.


تمهيد.

تعددت أبعاد الأزمة التونسية بين التنازعات السياسية والاختلالات الاقتصادية، والاحتقان المجتمعي، حتى صبت جميعها في القرارات التي أعلنها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو الماضي، بتجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة، وخلال الأشهر الخمسة الماضية، تصاعدت التكهنات حول تغيير ملامح النظام السياسي القائم كمخرج للأزمة القائمة، وباتت هذه النوايا حقيقة مؤكدة، حسبما جاءت في خطاب النقاط السبع الذي طرحه الرئيس كخارطة زمنية للتعديلات الدستورية والسياسية التي سيُجري مناقشتها وإقرارها خلال عام قادم واعتباراً من أول يناير 2022، وقد غلفت هذه النقاط، التصورات السياسية التي طالما أعلن عنها الرئيس سعيد حتى قبل توليه السلطة في العام 2019، فقد دأب خلال السنوات القليلة قبل وبعد انتخابه على البوح ببعض أو كل هذه الأفكار التي يختزلها الشعار الانتخابي  "الشعب يريد"، ويترجمه الرئيس سعيد برغبته في تمكين المواطنين التونسيين من أدوات التغيير القانوني بحيث تصبح مطالبهم قيد التنفيذ بعيداً عن التكتلات والصراعات الحزبية. وفي ذلك فإن هذه الورقة تنقسم إلى شقين، الأول استعراض معالم الأزمة المختلفة والتي أدت إلى لحظة الخامس والعشرين من يوليو، ومنها إلى القسم التالي الذي يتناول ملامح المشروع السياسي للرئيس سعيد، من جهة حيثيته وقابليته للتطبيق، وكذا فرصه تحققه أو إخفاقه. 

أولاً أبعاد الأزمة التونسية.

خرج الشعب التونسي إلى الشوارع في ديسمبر 2010، للمطالبة بالحرية السياسية، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتي بلغت من تدهورها حد أن أقدم المواطن "محمد بوعزيزي" على إشعال النار في نفسه تعبيراَ عن الغضب الذي اعتمل في نفوس التونسيين ضد حكم الرئيس السابق بن على، وخلال السنوات العشر التالية على بدء الانتقال السياسي في البلاد، لم تخفت مطالب التونسيين في الأمن والعيش الكريم والحرية السياسية. لكن ليس من قبيل المبالغة القول بأن الأوضاع مجتمعة، أصبحت أكثر سوءً مما كان عليه الوضع قبل سنوات الثورة، على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

البعد السياسي، والأمني: 

ربما نجح التونسيون بصعوبة بالغة في تأسيس مجموعة من التوافقات السياسية "الهشة" تضمن الانتقال الديمقراطي والتداول السلس للسلطة، لكن على هامش هذا النجاح أو في القلب منه تدهورت الأوضاع الأمنية في البلاد، حيث الاغتيالات السياسية التي راح ضحيتها القياديين "محمد البراهمي" و"شكري بلعيد"، وبروز خطر الإرهاب الذي بلغ ذروته مع الأزمة السياسية لعام 2013 وتصاعد في العام 2015 ليشل قطاع السياحة بصورة تامة مع هجومي باردو وسوسة. وقد تعددت مظاهر التدهور السياسي خلال سنوات ما بعد الثورة مقارنة بما كان قبلها، فارتفعت مستويات الفساد الإداري، وتراجع ترتيب تونس في مؤشر مدركات الفساد من المرتبة 59 في عام 2010، إلى المرتبة 74، و69 في عامي 2019 و 2020 على التوالي، وانعكست الخلافات الحزبية والسياسية وتراكم المشكلات دون حل في تراجع مستوى الاستقرار السياسي من جهة معدل التدوير الحكومي، حيث شهدت البلاد تناوب تسعة رؤساء حكومة شكلوا 12 وزارة، أي بمعدل أقل من وزارة كل عام، وتعبيراً عن الغضب من المنظومة السياسية فقد تراجعت نسب المشاركة في الانتخابات التشريعية من 68.8% في 2014، إلى 42.8% في 2019، فيما تراجعت نسب المشاركة في الانتخابات الرئاسية من 57% تقريباً في 2014، إلى 49.2% عام 2019، وان كانت قد ارتفعت في جولة الإعادة إلى 56.3%.

 كما ارتفعت أصوات التونسيين للمطالبة بتحييد الجهاز الإداري للدولة الذي تم اختراقه سياسياً خاصة من قبل المحسوبين على حركة النهضة، كما تورطت الأحزاب في علاقات متشابكة مع رجال الأعمال وبعض شركات القطاع الخاص، حيث عمدت إلى السعي المستمر للحصول على تمويل من هذه الشركات في مقابل الوعد بامتيازات اقتصادية تحصل عليها بعد أن تصل إلى السلطة. كما امتد التسييس إلى المؤسسة القضائية التي يُفترض حيادها، فحالت الصراعات والخلافات الحزبية دون تشكيل المحكمة الدستورية التي يُناط لها سلطة تفسير الدستور والقانون، وقد كان الجدل بهذا الشأن متصاعداً خلال الفترة التي سبقت قرارات الخامس والعشرين من يوليو، وهو ما دفع المجلس الأعلى للقضاة إصدار قرار بإغلاق باب الانتداب للقضاة في مناصب سياسية، داعياً من شملهم القرار، وعددهم خمسهم يتولون مناصب سياسية وإدارية في الحكومة، للعودة إلى العمل في السلك القضائي، كما ذكرت رئيسة نقابة القضاة التونسيين كذلك أن القضاء بات يشهد استشراءً للفساد وتحكم المال والسياسة في قراراته، وذلك في معرض تأييد النقابة لقرارات 25 يوليو.

البعد الاقتصادي والاجتماعي:

يُعد التدهور الاقتصادي في جوهره تعبيراً عن الأزمة السياسية التي عاشتها وتعيشها البلاد، وقد بلغ التدهور حداً جعل الوصول إلى الحالة التي كان عليها الاقتصاد التونسي قبل الثورة في 2010 حلماً بعيد المنال بالنسبة للمواطن التونسي، وليس أدل على ذلك من استعراض عدد من المؤشرات والبيانات الاقتصادية التي تؤكد هذا التدهور، فقد تراوحت معدلات النمو الاقتصادي-حسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء- في السنوات العشر قبل الثورة بين 3.8% عام 2001، 3.5% عام 2010، وتجاوزت في بعض السنوات معدل 6% كما في عامي 2004 و2006، بينما فشلت معدلات النمو الاقتصادي خلال السنوات العشر التالية على الثورة، في تجاوز نسبة 2%، بل وانكمش الاقتصاد في عام 2020 ليحقق نمواً بالسالب (-9)، وهو أسوأ معدل نمو اقتصادي منذ الاستقلال سنة 1956, فيما وصلت نسبة الدين الخارجي لأكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن كانت النصف تقريباً في 2010، مع تراجع قدرة البلاد على الوفاء بأقساط الديون دون مزيد من الاستدانة في ظل تدهور الاحتياطي النقدي للبلاد. وقد وصلت نسب التضخم إلى مستويات قياسية حيث بلغت 6.4% في شهر يوليو، كما ارتفعت نسب البطالة إلى 18.4 % في الثلث الثالث من عام 2021، وارتفعت بطالة الشباب إلى أكثر من 36% في 2020 ، وحقق عجز الموازنة أسوأ مستوى له خلال أربعين عاماً ليصل إلى 11.5% في عام 2020

تراكمت هذه المؤشرات السلبية، حتى تفاقمت مع سوء معالجة أزمة فيروس كورونا لتكون بمثابة الطامة الكبرى، التي كشفت عن تردي الأوضاع في المستشفيات العامة والعجز في الأجهزة والأدوية والمستلزمات الطبية، فضلاً عن نقص أعداد الأطقم الطبية التي يمكن لها أن تواجه في الأزمة، وألقت هذه الأزمة بظلالها على زيادة نسب الفقر والبطالة، حيث دخل أكثر من 600 ألف تونسي في دائرة الفقر خلال أزمة فيروس كورونا. ووصلت نسبة الفقر إلى مستويات ما قبل الثورة لتبلغ 20,2% من السكان، وقد كان من اللافت، تراجع حجم الطبقة الوسطى التونسية من نسبة 70% من السكان في 2011، إلى حوالي 50% في عام 2020، وهى إشارة دالة على حجم التدهور الذي شهده المجتمع التونسي، الذي تجاهلت حكوماته بعد الثورة خطط الإصلاح الحقيقي للاقتصاد الوطني، حيث فضلت الأحزاب السياسية التي تولت السلطة خلال السنوات الماضية، التنصل من مسؤوليتها السياسية والتاريخية، فعمدت إلى زيادة مستوى الإنفاق الاستهلاكي بما كبل الميزانية العامة للبلاد، وخلق مشكلات هيكلية يصعب تجاوزها حالياً، فقد تضخم الجهاز الحكومي حتى بلغ حجمه 700 ألف، وبلغت فاتورة الأجور سنوياً ما يقرب من 5.6 مليار دولار، وهو ما يمثل 70 % من الموارد الاقتصادية للبلاد، ويرتبط هذا التضخم في الجهاز الإداري، بما ذكره الرئيس سعيد، بأن هناك ألافاً من الشباب جرى تعيينهم بناء على قاعدة الولاء السياسي داخل مؤسسات الحكومة بل وباستخدام شهادات مزورة.

ثانيا: مشروع الرئيس وإعادة تشكيل النظام السياسي.

إذا كان ما سبق قد تناول الأزمة وأبعادها المتراكمة على مدار أكثر من عشر سنوات هي عمر فترة الانتقال السياسي في تونس، فإن ما يلي يتناول أبعاد الحل الذي يطرحه الرئيس قيس سعيد للخروج من الأزمة، مع الوضع في الاعتبار أن قرارات الخامس والعشرين من يوليو الماضي ليست سوى تمهيداً لهذا الحل الذي أعلن الرئيس سعيد عناوينه الرئيسية في خريطة طريق زمنية تتضمن سبع نقاط أساسية سيتم بلورة النظام السياسي الجديد على أساسها، دون أن يُعلن حتى الآن عن مضامين هذه الإجراءات التي لازالت قيد التصور والتشُكل، ومن ثم فإن هذا القسم يُبني بصورة أساسية على استطلاع الأفكار المختلفة التي عبر عنها الرئيس سعيد مراراً وتكراراً منذ أن كان مُرشحاً وحتى بعد أن أصبح رئيساً، وأفصح عن بعضها في خطابه يوم الثالث عشر من ديسمبر 2021. 

ينبني الطرح الذي يقدمه الرئيس، بأن الأزمة السياسية، هي جوهر المشكلة التي تمر بها البلاد وتفرعت من آثارها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم فإن حل الأزمة يجب أن يكون حلاً سياسياً، يتجاوز الصراعات الحزبية، ويشتبك مع المشكلات البنيوية سالفة الذكر، تفعيلاً لشعار "الشعب يريد"، وجوهره، تمكين الشعب من أدوات التغيير الدستوري والقانوني، حيث يتطلب ذلك كما عَبَرَ الرئيس، "فكراً سياسياً جديداً" يتجاوز المنظومة الحزبية القائمة، وبطبيعة الحال فإن هذا الفكر يجب أن يتجسد في نصوص دستورية جديدة، لم يُعلن حتى الآن عن تفاصيلها أو أطرها التنفيذية، لكنها تتعلق بشكل أساسي بتغيير هيكل علاقات القوى بين السلطات، ويمكن في الأسطر القليلة القادمة الإشارة لأبرز التصورات التي تقف خلف فكرة الرئيس من تغيير الدستور وتغيير صيغة نظام الحكم من نظام يميل إلى البرلماني إلى نظام رئاسي:

1. إخراج السياسات الاقتصادية والاجتماعية من دائرة الصراع الحزبي، ومن ثم تهميش دور الأحزاب السياسية، التي يعتبرها الرئيس فكرة تجاوزها الزمن، ولا بد من البحث عن أشكال تنظيمية بديلة، ويعني ذلك بتعبير الرئيس سعيد، "الارتقاء بإرادة الشعب إلى مستوى صنع القرار"، أي تمكين المواطنين من صياغة السياسات العامة المختصة بالتنمية بمفهومها الواسع، وباعتبارها قضايا غير سياسية.  

2. تغيير نظام الانتخابات في عموم البلاد ليتحول إلى نظام الانتخاب على المستوى القاعدي ثم التصعيد إلى المستوى الأعلى، فيتم انتخاب المجالس المحلية في كل معتمدية، ويكون التصويت فردياً للأشخاص، ويُشترط أن يحصل المرشح على توقيع عدد معين من المواطنين بناءً على برنامجه الانتخابي الذي يقدمه، ثم يُصعد بعض نواب المعتمديات إلى مستوى الولاية، ومن مستوى الولايات إلى المستوى القومي.

3. اشتراط أن تكون الحصانة البرلمانية مُقيدة وليست مُطلقة، بحيث يمكن للرقابة الشعبية أن تستمر في أداء دورها تجاه النواب المُختارين. 

4. التأكيد على حيادية الجهاز الإداري للدولة بعيداً عن المحاصصات السياسية والحزبية، وكذا الحفاظ على استقلال مؤسسات القضاء والجيش والشرطة، بعيداً عن شبهات الفساد والمال السياسي.  

5. استعادة الدولة لدورها الاقتصادي والاجتماعي، وتطوير أدوات سياسية غير تقليدية للخروج من المأزق الاقتصادي، كفكرة المصالحة في قضايا الفساد، لاستعادة الأموال المهربة إلى الخارج، والتي قدرها الرئيس بـ 13500 دينار تونسي، أي ما يعادل 4.8 مليار دولار، تورط في تهريبها حسب لائحة الاتهام الصادرة بهذا الشأن حوالي 460 شخصاً. ويُعول الرئيس على تعديل القانون الذي مرره البرلمان في عام 2017، ويتيح عدم الملاحقة القضائية لموظفين متورطين في قضايا فساد بعهد الرئيس السابق بن علي، لكنه لم يشمل بند العفو عن رجال الأعمال المتورطين في هذه القضايا، وهو ما يرغب الرئيس سعيد في إقراره لإتاحة الفرصة أمام إعادة استثمار هذه الأموال مرة أخرى، بحيث يقوم رجال الأعمال المُتصالح معهم بالاستثمار الاجتماعي لجزء من أموالهم في المناطق/ المعتمديات التي ينتمون إليها أو تحددها الحكومة.

وبالنظر لما سبق فقد يبدو منطقياً في سياق هذه الدراسة، التساؤل عن الجدوى العملية لتغيير طبيعة النظام السياسي في البلاد، وهل يمثل حلاً حقيقياً للمأزق الحالي؟، ألا يمكن تحقيق ما سبق في إطار النظام البرلماني القائم؟.

 ربما تستدعي الإجابة، أن نتساءل ابتداءً عن الأسباب التي تدفع النظم السياسية إلى تغيير أو تعديل الدستور، ومن ثم تغيير طبيعة نظام الحكم. حيث تطرح دراسة لبرند هايو/ Bernd Hayo و ستيفن فوغيت/ Stefan Voigt، مجموعة من العوامل أو الاحتمالات التي يتم فيها تعديل الدستور لتغيير طبيعة نظام الحكم، منها: 

- وجود أزمات حكومية داخلية أو نزاعات مسلحة محدودة فتدفع إلى تغيير شكل الحكومة.

- الدول التي تمر بمرحلة الدمقرطة أو التحول الديمقراطي تعتبر أكثر قابلية لتعديل شكل الحكومة من الديمقراطيات المستقرة.

- عندما يكون الدستور الأولي للبلاد برلمانياً فإن هناك احتمالية كبيرة لتغيير شكل الحكومة إلى النظام الرئاسي. 

تبدو هذه العوامل متحققة في الحالة التونسية بصورة كبيرة، بما يتيح الفرصة أمام الرئيس لتحقيق مشروعه الذي يبدأ بتغيير النظام ولا ينتهي به، ومن ثم تجدر الإجابة عن التساؤل المشروع، هل يكفي التحول إلى النظام الرئاسي وتبني الحلول التي طرحها الرئيس للخروج بالبلاد من أزمتها، في حين أن قطاعات من النخب التونسية تعتبرها حلولاً تتسم بالشعبوية ومن ثم تقوض مسار الديمقراطية؟ 

طبقاً لتصورات الرئيس سعيد فإن الأحزاب السياسية قد أفلست، ويمتد هذا الإفلاس للنظام البرلماني ذاته، والذي لم يعد قادراً على التجاوب مع أي من مشكلات الدولة، ومن ثم فإن التحول إلى النظام الرئاسي قد يُخلص البلاد ولو مؤقتاً من الانقسامات والصراعات الحزبية، ويضع حداً لظواهر الفساد وإهدار الموارد العامة للبلاد، خاصة وأن شخص الرئيس لا زال يحظى بالشعبية والتقدير لدى المواطنين التونسيين، وهو ما سيمكنه من التجاوز المؤقت لصيغة علاقات القوى القائمة، والتي لديها قلق بأن يعيد النظام الرئاسي البلاد لمرحلة ما قبل الثورة.

 لكن الديمقراطية مثلما يمكنها أن تعمل ضمن الإطار البرلماني، يمكنها كذلك أن تعمل تحت صيغة النظام الرئاسي. وقد كانت الديمقراطية البرلمانية في تونس متعثرة على مدار السنوات العشر الماضية، بحيث يمكن القول أن هذه التخوفات، نخبوية أكثر منها شعبية، فأغلبية التونسيين طبقاً لاستطلاعات الرأي يُعرفون الديمقراطية بما يترتب عليها من نتائج اقتصادية واجتماعية، ومن ثم فإن قابلية تعديل صيغة النظام السياسي إلى الرئاسي، ستجد صداها لدى المواطنين شرط أن ترتبط بكفاءة النظام في إدارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، قدر ارتباطها بصفة عامة، بالضمانات اللازمة لتعزيز مسيرة الديمقراطية في البلاد ومعالجة عيوبها القائمة.

لكن هذا الحل الرئاسي يبقى محدوداً بالتفاعل الإيجابي مع مجموعة من المعطيات التي ستحسم نجاح تطبيق المشروع من عدمه، والأهم ضمان استدامة طبيعة النظام الجديد بحيث لا يتحول مع الوقت القريب إلى أزمة جديدة، وتمثل هذه المعطيات كذلك، فرصاً وتحديات في آن واحد أمام المشروع السياسي للرئيس سعيد، وهى على النحو التالي:

1. التوفيق بين اتجاهات الشارع والضمانات الديمقراطية.

لم تعد الأزمة في تونس اليوم، بصورة جوهرية أزمة استمرار الديمقراطية من عدمها أو التحول إلى النظام الرئاسي دون البرلماني أم لا، وإنما قدرة النظام الرئاسي في حال التحول إليه على تلبية التطلعات الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفساد المستشري في أجهزة الإدارة العامة، ومن المؤكد أن هذه هي الحقيقة التي يدركها الرئيس سعيد، ولا تدركها أو تتجاهلها بعض القطاعات من النخب السياسية، التي تتهم الرئيس بالانقلاب على الدستور والانفراد بالسلطة، ولم تعد تلك الاتهامات قاصرة على حركة النهضة الإخوانية، بل تجاوزتها إلى بعض الأحزاب الأخرى التي رحبت بقرارات 25 يوليو، كالحزب الدستوري الحر، المتصدر الأول لاستطلاعات الرأي في حال انعقاد انتخابات برلمانية مبكرة، والذي يرفض صيغة تغيير نظام الحكم أو تغيير القانون الانتخابي بما يهمش دور الأحزاب. وقد اتهمت العديد من الأحزاب، الرئيس سعيد بافتقاد الخبرات اللازمة لإدارة شؤون، حيث انصرفت هذه الاتهامات إلى بعض الخطوات التي اتخذها الرئيس لتسيير العمل في دولاب الدولة، ومنها تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة أستاذة الجيولوجيا السيدة نجلاء بودن، والتي أصبحت أول امرأه تتولى منصب رئيس الحكومة في بلد عربي، فعلى الرغم من الترحيب الذي لاقاه هذا التعيين محلياً ودولياً، باعتباره انتصاراً لمكاسب المرأة العربية والتونسية، ويؤكد انحياز الرئيس سعيد لهذه المكاسب بعد محاولات التشكيك في موقفه من قضايا المرأة خاصة بعد الجدل حول قانون الميراث والزواج المدني، وإلى درجة دعت سعيد لوصف القرار بـ التاريخي، و مفخرة لتونس، إلا أن البعض فسر هذه الخطوة باعتبارها محاولة من الرئيس لفرض سيطرته على الجهاز التنفيذي من خلال تعيين سيدة ليس لديها خبرة سابقة في العمل السياسي والتنفيذي، ومن ثم يُمكن السيطرة على تحركاتها بحيث ينحصر دورها في تقديم الاستشارة إلى الرئيس صاحب القرار الوحيد. كما امتدت هذه الانتقادات إلى الإجراءات الزمنية التي أعلن عنها الرئيس وحازت رفض أو تحفظ أغلب القوى السياسية والحزبية، حيث وصفها أحد السياسيين بمنهج الهروب إلى للأمام

ومن ثم  ففي ضوء رفض الأحزاب السياسية للصيغة التي يطرحها الرئيس سعيد، للنظام الانتخابي الجديد، فإن ثمة شكوك حول إمكانية أن تنجح مساعي الرئيس الخاصة باستبعاد الأحزاب، دون تطوير آليات تنفيذية تضمن استمرار الرقابة الشعبية على أعمال السلطة التنفيذية، وهو الأمر الذي لم يفصح الرئيس سعيد سوى عن بعض صوره وعلى رأسها فكرة لجان الاستشارات الشعبية الإلكترونية والمُخصصة لاستطلاع اقتراحات المواطنين حول طبيعة النظام السياسي الجديد، وهو ما تعتبره أغلب الأحزاب والكتل السياسية، فكرة غير عملية وتستهدف في المقام الأول فرض تصورات الرئيس الشخصية.

إلا أن الرئيس سعيد لازال يستند إلى تأييد أغلب الشارع التونسي للإجراءات والقرارات التي أعلن عنها، حيث ذكر في خطابه قائلاً: "عليهم أن يعرفوا أن عمقنا الشعبي أكبر بكثير من عمقهم الشعبي"، وذلك في إشارة إلى الأحزاب السياسية الرافضة لقراراته، وحتى التي أيدتها في البداية، فيما تُعول الأحزاب السياسية على تململ المواطن التونسي من طول أمد الإجراءات الزمنية التي أعلن عنها الرئيس، بالتوازي مع فشل الحكومة في إدارة الملف الاقتصادي والاجتماعي، حيث يمكن حينها تحريك الشارع من جديد، والدفع نحو تعديل الآجال الزمنية المُعلنة وإعادة إدماج القوى والأحزاب السياسية في الحوار الوطني المُفترض. 

ويجدر القول في هذا المقام، بأن النظام الرئاسي من الناحية النظرية والعملية يعتمد بصورة أساسية على مبدأ التوازن والفصل بين السلطات، بحيث لا تتغول السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى في الدولة، ومن ثم تتجاوز الدولة الظاهرة المرتبطة بالعديد من النظم الرئاسية، وهى الرئاسة الإمبراطورية/ Imperial Presidency ، بمعنى تضخم منصب رئيس الدولة ليتغول على صلاحيات المؤسسات الأخرى ومن ثم تفقد الدولة المكتسبات الديمقراطية، و للحيلولة دون ذلك فإن استمرار الرقابة الشعبية من خلال القنوات الرسمية والغير رسمية يعتبر أحد الضمانات الجوهرية لهذا التوازن، وتعتبر الأحزاب السياسية في القلب من هذه العملية.

2. تقديم حلول واقعية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية.

طبقاً للبارومتر العربي فإن أكثر من 90% من التونسيين غير راضين عن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، كما يعتبر 89% من التونسيين تقريباً أن الفساد منتشر بصورة كبيرة أو متوسطة، وهى أكبر نسبة على الإطلاق في البلدان التي شملها الاستطلاع خلال موجته السادسة، ومن ثم فإن المحك الحقيقي لنجاح مساعي الرئيس سعيد هو قدرته على المبادرة بخارطة إصلاح اقتصادي قابلة للتطبيق، تتجاوز محدودية أفكار التسعير الجبري التي طرحها الرئيس، إلى خطط واضحة لزيادة الإنتاج الصناعي والزراعي واستعادة مستويات إنتاج الثروة المعدنية كالفوسفات، حيث سيساهم النمو الحقيقي بهذه القطاعات، في إيجاد فرص تشغيل تستوعب مستويات البطالة المتصاعدة، دون تكبيل الميزانية العامة بمزيد من الأعباء، وقد تنبه الرئيس سعيد إلى ذلك جيداً حين رفض تطبيق القانون 38 لتشغيل من طالت بطالتهم من حاملي الشهادات العليا في الجهاز الإداري للدولة. 

3. الحفاظ على وحدة مؤسسات الدولة وبناء التوافق العام:

اعتمد الرئيس سعيد في تمرير قرارات 25 يوليو، على حشد مؤسسات الدولة التقليدية وعلى رأسها القوات المسلحة التي تحظى باحترام التونسيين، وحشد إمكانياتها لمعالجة تدهور الأوضاع الصحية، كما يواصل الرئيس مساعيه، لإصلاح المنظومة القضائية، وكذا الأجهزة الأمنية، ويمثل الحفاظ على وحدة هذه المؤسسات والتوافق معها، وسد ثغرات اختراقها، صمام أمان، يحول دون نجاح بعض القوى وعلى رأسها حركة النهضة، في جر الشارع إلى العنف أو الفوضى، على النحو الذي برز في احتجاجات البطالة في بعض المناطق كولاية قابس وتطاوين. وليس أكثر أهمية من وحدة مؤسسات الدولة، سوى ما يتعلق بضرورة استعادة تأييد قطاعات من النخب السياسية والحزبية التي يرفض الرئيس التعامل معها حتى الآن، وعلى رأسها الاتحاد التونسي للشغل بما له من ثقل سياسي وتنظيمي، فكلما اتسعت مساحة التوافق العام، زادت فرص الخروج من الأزمة بأقل خسائر ممكنة. وقد يكون من المناسب أن يدفع الرئيس سعيد، الأحزاب السياسية لتصحيح مسارها من خلال التوافق على وثيقة جديدة تحدد قواعد وأهداف العمل الوطني، وتؤكد فيه الأحزاب السياسية ارتقائها إلى مستوى المسؤولية التاريخية الحالية، كخيار بديل أفضل من الاستبعاد الذي يبدو صعب التحقق على المدي المتوسط والبعيد.

4. إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية الدولية:

يُعد البعد الدولي حاضراً بوضوح في الأزمة التونسية، سواء فيما يتعلق بالقلق الغربي على مسار الديمقراطية، أو ما يتعلق بالتفاوض مع المؤسسات المالية الدولية حول القروض وأزمة الديون، حيث يعتبر الرئيس سعيد أن شروط المؤسسات الدولية مجحفة بالاقتصاد التونسي، ولن تجلب سوى مزيداً من التكبيل، ولذلك تحاول الدولة التونسية إيجاد مصادر بديلة للدعم المالي الخارجي دون شروط مجحفة، وهو ما بدأ بالفعل في المفاوضات الجارية مع الإمارات العربية والسعودية لهذا الغرض، ومن ثم فإن النجاح في الحصول على هذا الدعم الذي يجب أن يأتي في صورة استثمارات وحزم تمويلية، سيوفر القدرة على مقاومة الضغط وتأمين المسار الحالي. 

ختاماً.

اشتهرت الحالة السياسية التونسية، خلال العقد الماضي، بأنها الاستثناء الناجح للثورات العربية، دون الاهتمام بشرح معايير هذا الاستثناء، والتي ركزت خلال هذه السنوات على النجاح في بناء توافقات سياسية هشة، قوضت شروط الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، بحيث يمكن القول دون مبالغة، أن قابلية تونس للانتقال إلى الديمقراطية في سنوات ما قبل الثورة، أصبح أعلى من قابليتها في ظل الظروف الحالية، بحيث لم تعد القضية التي تشغل المواطن التونسي طبيعة نظام الحكم، بقدر ما هي كفاءته، مع التأكيد على أن هذه الكفاءة لا تتعارض بطبيعة الحال مع الديمقراطية، وإن كان من أمر لازم فهو الجمع بينهما، وقد كانت تلك هي إشكالية الحالة التونسية، حيث غابت الكفاءة الإدارية والاقتصادية، لصالح معايير اسمية أكثر منها جوهرية للممارسة الديمقراطية. وقد مهدت هذه الحالة إلى اللحظة الحالية التي توشك فيها تونس على تغيير طبيعة نظامها السياسي، في خطوة قد يري معارضوها أنها للالتفاف على مكتسبات الثورة، ويراها أغلب المواطنون محاولة لتجديد الدولة التونسية، وضخ دماء جديدة في عروق التجربة الديمقراطية، بحيث تصبح أكثر فاعلية في التعامل مع المشكلات البنيوية التي يعانيها المجتمع والاقتصاد، خاصة إذا تمت في إطار من التوافق العام الواسع وبما يضمن استمراره، وبأكبر قدر ممكن من الدعم الخارجي. 


تعليقات

المشاركات الشائعة