الفريضة المؤجلة فى ثورة يوليو



محمود عبد العزيز 

تحل علينا اليوم الذكرى الـ 70 لثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، وفى كل ذكرى نجدد التحية لرجالها وأبطالها ولشعبنا الذي آمن بهذه الحركة الوطنية وأيدها وانتفع بثمارها، بمثل ما عاني من بعض أخطائها.

ولسنا هنا بصدد ترديد ما حققته الثورة أو ما فشلت في إنجازه، فلا ريب أن ما قدمته الثورة لشعبها اجتماعيًا واقتصاديًا لازال محلًا لتقدير جماهير أمتنا تتطلع إليه بحنين واشتياق تؤكده صورة القائد الزعيم جمال عبد الناصر التي ملأت جنبات ميادين الثورة في يناير، ويونيو.

ولهذه الرمزية التاريخية التي يمثلها ناصر لم تحاكم الجماهير مشروعه السياسي الذي غيب الديمقراطية، وأقصد بالمحاكمة، استقرار الإدراك والوجدان الشعبي على موقف محدد تجاه أسلوب الحكم السلطوي، فلازالت صورة المستبد العادل تحكم وتتحكم في غالب الذهنية الوطنية.

بيد أن الحق يقتضي منا القول، أن ثورة يوليو ليست السبب الوحيد في مسألة تغييب الديمقراطية، بل عبرت عن اتجاهات شعبية ونخبوية تبلورت خلال سنوات ما قبل الثورة ذاتها، والتي اتخذت موقفًا سلبياً من الملك والأحزاب السياسية، فأسقطته على الديمقراطية التي باتت متهماً بالتسبب في الفساد الذي طال الملك أو غيره من الشخصيات السياسية الحزبية والوطنية، فانفض الناس عنها، أي أن الطلب على الديمقراطية كان قد تراجع بالفعل قبل الثورة.

ولكي ندرك هذا المعني فمن الأجدى أن نستطلع السياق التاريخي خلال السنوات التي سبقت يوليو، والذي يشير إلى أن الديمقراطية لم تكن حلًا مطروحًا للخروج بالبلاد من أزمتها السياسية والاقتصادية، وحين ثبت للجماهير خطأ هذا التصور اندفعت إلى الميادين في يناير وما بعدها وإن لم يكن هذا هو دافعها الوحيد بطبيعة الحال. كما أن تراجع الطلب الشعبي على الديمقراطية بعد يناير يرتبط هو الآخر بعوامل جوهرية كتلك التي سبقت ثورة يوليو. ولا ريب في أن مد الوثاق بين الحدثين أمر لازم إذا أردنا بناء تصور علمي ومنطقي قائم على اتصال تاريخي لأحداث وطنية، التي وإن اختلفت منطلقاتها إلا أنها لا تنفصل من جهة ظروفها أو سياقاتها.

حتى سنة 1936 كانت الديمقراطية والحياة الدستورية مطلبًا جماهيريًا، شاركه جمال عبد الناصر نفسه حين كان طالباً بالثانوية في المظاهرات التي خرجت سنة 1935 لتنادي بإسقاط دستور 1930 الذي استبدل به اسماعيل باشا صدقي، دستور 1923. وهي مظاهرات في مجملها اعتراضاً على استبداد حكومات القصر التي أتت على الديمقراطية المحدودة المُكتسبة بقعل حركة الجماهير في الثورة الوطنية 1919، وترسخت في دستور 1923.



محمد باشا محموداسماعيل باشا صدقي


وقد كانت لهذه السنوات أثرها الواضح في وصم التجربة الحزبية والديمقراطية، خاصة إذا فهمنا جيداً أن الديمقراطية كانت مطلبا مقترناً بالطلب على قضية الاستقلال الذي سيتحقق من خلال حكومة وطنية تحظى بدعم شعبي يمكنها أن تصمد في المفاوضات أمام المستعمر البريطاني، وقد تمثلت هذه الزعامة في حزب الوفد بقيادته التاريخية سعد زغلول باشا ثم مصطفي النحاس باشا، لكن الوفد وهو حزب الأغلبية لم يحكم خلال 32 عاماً سوى سبع سنوات متفرقة، ومن ثم فقدت الجماهير والنخبة حماسها للديمقراطية رويداً رويداً.

وربما يكون مناسباً أن نشير إلى ثلاثة عوامل جوهرية شكلت مشهد سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وصولاً إلى يوليو 1952.

أولاً: الأزمة الاجتماعية المتفاقمة التي وضعت أكثر من 80% من الشعب تحت خط الفقر وعجزت الحكومات المتعاقبة أو الاستعمار عن وضع حلول جذرية للأزمة التي كان من تجلياتها ان ترعى الحكومة حملة لمكافحة الحفاء في القاهرة، فإذا كان الحال هكذا في العاصمة فما بالنا بريف الدلتا والصعيد.

ثانياً: ظروف ما قبل الحرب العالمية الثانية التي شهدت صعوداً للتيارات الفاشية والنازية داخل السياسة المصرية على النحو الذي جسده حزب مصر الفتاة، أو الإخوان المسلمين الذين شكلوا تنظيمياً عسكرياً مارس عمليات الاغتيال والتفجير، وهدد وجود الدولة ذاته.

ثالثاً: فقدان الأمل في جلاء الاستعمار بطريق المفاوضات، فتصاعد الطلب على قضية الاستقلال من غير أن تطرح الديمقراطية كما كان الحال منذ ثورة 1919، وربما وفرت بعض الأحداث التاريخية كحادث 4 فبراير 1942 مناخاً مناسباً لإدانة التجربة الحزبية ومن ثم التجربة الديمقراطية ككل.

ولدت ثورة يوليو في ظل هذا المناخ، ولم تكن قضية الديمقراطية غائبة عن أهدافها الستة، فقد نادت بإنشاء ديمقراطية "سليمة" وقد وضعت كلمة سليمة بين علامتي تنصيص لتأكيد أن وجودها لم يكن عبثًا، فالثورة قد أصدرت حكمها بالإدانة لمجمل التجربة الليبرالية منذ 1923، وهو حكم جيل عبد الناصر على هذه الفترة.

تعاملت الثورة بسرعة مذهلة مع القضية الاجتماعية، فأصدرت قانون الإصلاح الزراعي بعد ستة أسابيع لتحديد سقف الملكية الزراعية بمائتي فدان، وشرعت في إقرار البرامج اللازمة لعلاج الأزمة الاجتماعية والتأخر الصناعي والزراعي الذي عانت منه البلاد، بالإضافة لبدء المفاوضات العاجلة لتحقيق الجلاء.

حُسمت مسألة الديمقراطية سريعًا في أواخر سنة 1954 لصالح فريق عبد الناصر الذي أنجز اتفاق الجلاء، وأسس هيئة التحرير كتنظيم سياسي وحيد في البلاد، وبدأ في رسم معالم جديدة للشرق الاوسط والمنطقة العربية التي آن لها أن تُبعث من جديد.

فمن صفقة الأسلحة التشيكية إلى باندونج، مرورًا بقرارات التأميم والانتصار السياسي الذي تحقق في 1956 ثم الوحدة المصرية السورية. أصبحت مصر قوة عظمى في الإقليم، كل ذلك أنجزه جمال عبد الناصر في أربع سنوات كانت مصر قبلها مستعمرة بريطانية.

أي انطباع وأي مشاعر فخر يمكن لأي مواطن مصري أن يشعر بها بعد أن بات يرفع رأسه عاليًا بفضل جمال عبد الناصر، إنه الحلم الذي طال انتظاره، بل هو المستحيل يمشي على قدمين، لابد أن الجماهير أيقنت حينها أن ما تلي ثورة 1919 لم يكن حقًا ديمقراطية سليمة.

فالديمقراطية السليمة هي التي توفر للمواطن قوته قبل أن تعطيه حق التصويت، ومن هنا كرست ثورة يوليو علاقة التضاد بين تحقيق الديمقراطية من جهة، والتنمية من جهة أخرى، وهو السؤال الذي ظل متجددًا في حياتنا السياسية، بأيهما نبدأ ؟!

توالت انتصارات الثورة، كما تتالت هزائمها من الانفصال حتى النكسة في 1967، ثم تآكلت إنجازاتها الاجتماعية والاقتصادية بفعل الزمن أو بفعل فاعل، وبقي منها أسلوب الحكم الذي لم يتغير كثيرًا، والذي لم يغفل أحد بما فيهم الرئيس جمال عبد الناصر أنه أهم الأسباب الجوهرية التي أفرزت المشهد في 5 يونيو 1967.

لقد كان عبد الناصر مدركاً لأهمية الديمقراطية لكنه بالقدر ذاته كان متخوفاً من أن تأتي الديمقراطية بالأحزاب القديمة إلى السلطة مرة أخرى، وعندما نجح في تفكيك قواعدها المالية والاجتماعية، كان النظام الذي تشكل على مدار سنوات 1956-1966 أكبر من أن يتغير في هذا الاتجاه بالنظر إلى شبكة المصالح التي تشكلت حول النظام ومن خلاله والتي اصطُلح على تسميتها فيما بعد بمراكز القوي، وحين وفرت الهزيمة في يونيو فرصة للتخلص من عبئها، كانت الحرب عبئاَ أكبر لا يمحو أثره إلا انتصاراً مدوياً في أكتوبر 1973، حينها كان عبد الناصر قد فارق الحياة، فبقي رمزاً حياً وزعيماً عظيماً في آماله وتجربته بحلوها ومرها، مثالبها وانتصاراتها.

ظل عبد الناصر خالداً بتجربته وكذا بدروسها، ومنها أن معادلة الأمن والاقتصاد من جهة، والديمقراطية من جهة أخرى لم يحققا التناغم الذي يُقنع الجماهير بإمكانية بل وبضرورة ترافقهما. فعندما يُخير أي مواطن في أي مكان في العالم بين قوت يومه وأمنه، وبين صوته فلا شك أنه سيفضل قوت يومه وأمن أبناءه، رغم أن المسألة ليست بهذا التبسيط الذي يبدو مخلاً!

إذا كانت الديمقراطية تحتاج ابتداءً لإرادة سياسية وقيادات تاريخية تؤمن بها، فهي أيضُا تحتاج قاعدة جماهيرية مطمئنة تؤمن بها وتضغط في اتجاه هذا الهدف وتضمن استمراريته، فما يحتاج أن يطمئن إليه الناس أن لقمة العيش لا تتعارض مع الحق في الاختيار، وأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تعيش وتتكامل بالحقوق السياسية.


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة